كيف تعمل المقاومة على تحرير إدارة شؤون الموت الفلسطينية من قبضة الاحتكار الإسرائيلي؟ وجعل أشكال الموت المتنوعة صور ولادة جديدة؟ في جعبة المؤرخ والأنثروبولوجي الأميركي، دوغلاس ج. ديڤيس، كتب عدة درس فيها "الموت" وأرّخ له، أهمها "الوجيز في تاريخ الموت"، الذي ينهيه بـ "موت العالم" وكل حياة فيه، لكنه يحتفظ بنظرة تفاؤلية إذ يقول إن: "أي تاريخ للموت هو في الوقت ذاته تاريخ للأمل". في الحالة الفلسطينية ينشأ سؤال خاص: هل ثمة تاريخ خاص بالموت الفلسطيني؟ كتاب إسماعيل ناشف "صور موت الفلسطيني" (2015) يؤكد ذلك، ول سيما أنّ الفصل الأول منه يحمل عنوان "تاريخ الموت الفلسطيني". يحدد ناشف أنّ طريقة الموت مرهونة بشكل النظام الاجتماعي الذي يموت فيه الإنسان، وأنها نسق سلوكي، مثل أي ممارسة اجتماعية أخرى، يُشتق من النظام الاجتماعي العام ويتحقق في سياق حياة الفرد الذي سيموت. يتناول ناشف، انطلاقاً من ذلك: الضحية والشهادة والاستشهاد بما هي طرائق موت، والمجتمع الفلسطيني الذي يحتّم هذه الطرائق. المقاومة، من منظور الكتاب، تسعى لخوض الصراع على تحرير إدارة شؤون الموت الفلسطينية من قبضة الاحتكار الصهيوني عليها (منذ عام 1948)، لتتمكن من تفكيك الفقدان المولِّد وإيجاد منظومة موت/ولادة أخرى. يدرس ناشف بعد ذلك 3 أشكال من المقاومة، يميّز بينها بحسب نوع الموت الناتج منها للفلسطيني، الفردي الساعي في جماعيته: الضحية، والشهيد/الشهيدة، والاستشهادي/الاستشهادية. ومنها يقرأ الموت بوصفه عودة، لا نهاية. المقاومة تحريرٌ للموت ليس من السهل تحديد الملامح الأساس للمجتمع الفلسطيني وطرائق عمله بوصفه نظاماً قائماً بذاته. فهذا المجتمع يمر منذ بدء تشكّله على النمط الحديث في عمليات مكثفة من التفكيك وإعادة التشكيل قلما نرى مثلها في العصر الحديث. ويحدد ناشف أواسط القرن الــ 19 لبداية تعرض المجتمع الفلسطيني بذاته وكجزء من العالمين العربي والإسلامي لممارسات متتالية من التفكيك، أقدم عليها النظام الاستعماري الغربي بصوره المتعددة، وتمثل الصهيونية آخرها، كآخر دولة استعمارية. في مقابل هذا التفكيك، ظل المجتمع الفلسطيني أو الفلسطينيون كجماعة يعملون على إنتاج ذواتهم من خلال أشكال متعددة من الوجود الاجتماعي الاقتصادي، وحافظوا على بنية زمانية - فضائية مركزية حتى نكبة 1948، أي إلى تدمير هذه البنية وتشتيت وتهجير المجتمع الفلسطيني، على أنّ الفهم الأساس للنكبة لا يجب أن يعدّها حدثاً منفصلاً أو مصادفة، بل تتويجاً لعمليات اجتماعية تاريخية. ويقول ناشف إنّ ما بدأ حرباً تطور إلى إبادة جماعية قضت على الكيانية الفلسطينية في شكلها الذي سبق الحرب، فتفتت المجتمع الفلسطيني جماعات عدة، تعيش كل منها على هامش مجتمع آخر، تتعلق به ويقصيها بدوره عن مركزه. ويواصل النظام الاستعماري الصهيوني تفعيل سيناريو سنة 1948 على كل واحدة من جماعات المجتمع الفلسطيني الناتجة عن النكبة: الشتات والمناطق المحتلة سنة 1948 والضفة الغربية وقطاع غزة. التدمير الاستعماري المنظم للكيانية الفلسطينية بالمستوى المادي لا يزال التمظهر الأساس للنظام الاستعماري في فلسطين. إنّ نكبة 1948 لحظة مفصلية في تاريخ إدارة شؤون الموت الفلسطينية، بما هي إدارة شؤون حياتهم. فالنظام الاستعماري الصهيوني استطاع أن يحتكر ممارسة موت الفلسطيني وشؤونه حتى أصبح هذا الملف الأساس المؤسِّس في الإجراء النظامي الصهيوني. من هنا يصبح الموت الفلسطيني، في بعض الأشكال التي يرصدها ناشف، محاولةً لتحرير الموت من احتكار الاستعمار الصهيوني. أي أنّ المقاومة هي شكل تاريخي محدد من أشكال العودة المتعددة، واستطاعت أن تنحت، ولا تزال، تشكيلة من الولادات الفلسطينية ذات تجليات وملامح مميزة. فهي تسعى لخوض الصراع على تحرير إدارة شؤون الموت الفلسطينية من قبضة الاحتكار الصهيوني عليها. المقاومة من هنا هي شكل وممارسة لإعادة إنتاج الجماعية الفلسطينية، ومن هذا المنطلق يمكن تتبع الممارسات المحددة للمقاومة كآليات عينية في إنتاج الفلسطيني لذاته الجماعية في مسارات تنبع من لحظة النكبة المستمرة في "الآن" و"هنا" الفلسطينيين. المقاومة المسلحة إذن هي آلية عينية في إنتاج الفلسطيني لذاته الجماعية وهي تنبع من البنية العنيفة للحظة النكبة، أي أن هنالك في حدث النكبة، كما في البنية التي تعقدت في أعقابه، منطق عنفٍ تشكيلي في مبنى إدارة النظام الصهيوني شؤون الموت الفلسطينية. كما أنّ حتمية المقاومة المسلحة تنبثق من عملية العودة الساعية إلى تقويض إدارة شؤون الموت الفلسطينية على يد النظام القائم على منطق العنف التشكيلي. صور الموت وصور الولادة يلاحظ ناشف أنّ القتل الفلسطيني المنظم استمر على طريقة المجزرة، ورافق هذا النمط من المجازر محاولات حثيثة لتشكيل هوية جماعية خاضعة لأطر تذويب فلسطينيّة الجماعة. في المقابل، تم استهداف النخب الطلائعية والقيادية من أدباء ومفكرين وسياسيين وعسكريين ومقاومين بشتى الوسائل والتقنيات، سواء عن طريق الاغتيال والتصفيات الجسدية المنوعة، إلى جانب الاعتقال السياسي بما هو موت اجتماعي للفرد وجماعته. كذلك فإن من أهم الإجراءات التي تشكلت بها صور الموت الفلسطيني: الإقامة الجبرية ومنع التجول والحاجز والتفتيش الجسدي والاعتداء العلني على الأجساد بشكل مشهدي وتكسير العظام ومصادرة البيوت وهدمها، علاوة على اعتقال مئات آلاف الفلسطينيين. مع ذلك، فبالتزامن مع صور الموت نرى أن هناك صوراً للولادة الفلسطينية. إذ تمكّن جزء محدد من الفلسطينيين من تشكيل أطر عمل جماعي فلسطيني، أي تأسيس جسد إنتاجي يعمل في الأساس على إعادة إنتاج الجماعة الفلسطينية بذاتها ولذاتها. ويوضح ناشف أنّ أحد وجوه الحياة من خلال الموت هو أن تموت شهيداً، هذا يعني أنك تنتزع من النظام سيطرته على إدارة شؤون الموت الجماعي الفلسطيني، وإن كان هذا الانتزاع رمزياً وجزئياً؛ فالشهيد ينتزع السيطرة على موته هو كفرد ليمثل إمكانية الانتزاع الجماعي. الاستشهادي هو الشكل الآخر للحياة من خلال الموت. إذ يصفه ناشف بخروجه من جسد جماعته، حرفياً ومجازاً. ويناقش ناشف أخيراً مسألة إعادة إنتاج الذات، فأساس العمل الجماعي الفلسطيني المنتج، بهيئاته الثلاث التي ذكرناها في المقدمة، يقوم على إعادة إنتاج الفلسطيني ذاته: مادياً وبيولوجياً واجتماعياً وثقافياً، ويرهن هذا الإنتاج في صراعه لاسترداد سيطرته على إدارة شؤون الموت الجماعي الفلسطيني من يد النظام الاستعماري، وقد تأسست هيئة عمل جماعي تسعى لنفي ما نتج من النكبة والعودة بانتزاع السيطرة على إدارة شؤون الموت الجماعي الفلسطيني من يد النظام الاستعماري على تجلياته المؤسساتية المتعددة. |