شريط سينمائي غير قابل للنسيان، واستحق جوائز كثيرة. فيلم "زهرة القندول" مخزن للحكايات الاستثنائية عن بطولات أهل جنوبي لبنان، وخصوصاً نساءه. تعالوا نتعرف إليه. عندما توجّه الثنائي السينمائي جان شمعون ومي المصري إلى الجنوب اللبناني، قبل نحو 3 عقود، لإنجاز فيلمهما "زهرة القندول" (1985)، كانا يعلمان بأنهما على موعد مع مخزن للحكايات الاستثنائية عن بطولات خاضها أهل الجنوب ضد الاحتلال الإسرائيلي. هناك ستجد الكاميرا مبتغاها عبر تصوير عشرات النساء المناضلات، فكل واحدة منهن لديها ما ترويه، لكن العدسة ستختار "خديجة حرز" كي تروي حكايتها، كما لو أنها شهرزاد أخرى، وإن جنحت حكايتها نحو وقائع مؤلمة خاضتها ببسالة في مواجهة الاحتلال أولاً، والتمرّد على الأعراف العائلية المغلقة. لن يكتفي هذا الوثائقي بحكاية خديجة حرز وحدها، إذ تتناسل الحكاية المركزية نحو قصص مجاورة لنساء أخريات، الأمر الذي يشكّل جدارية لألوان من المقاومة والصمود أمام تحديات الاحتلال. نساء يغامرن بزرع الألغام والمشاركة في التظاهرات عند تخوم المعتقلات، وإذا بالمسافة بين الأسلاك الشائكة للمعتقل والقرى المحتلة تتهاوى بالتدريج بقوة نداء الصوت المتبادل بين الأم وابنها، كما سيُزج بخديجة وزوجها في المعتقل. رحلة تيه من معتقل إلى آخر، من دون أن تنهار هذه المرأة الشجاعة على رغم فصول التعذيب التي نالتها في غرف التحقيق. في المقلب الآخر، ستروي خديجة حرز جانباً من معاناتها كضحية لذكورية الأب برفضه التحاقها بالمدرسة، لكنها ستتمكن من تعلّم القراءة والكتابة سرّاً، فهي لطالما حلمت بأن تتمكّن من قراءة اللافتات والإعلانات في الشوارع، من أجل التعرّف، من كثب، إلى ما يحيط بها، إلا أن كل هذه التحديات لم تكسر إرادتها في الخروج من القوقعة. فها هي حرز تكتب مذكراتها، التي ستقود مسار الشريط بأكمله وتشحنه ببعد بصري مؤثر يوازي قوة العمل الروائي، لجهة العمارة السردية والاحتدامات الدرامية إزاء أفعال الشخصيات ومصائرها، في توقيت متفجّر ينطوي على روح متوثبة لا تنحني أو تستسلم. كل ذلك تعززه مقابلات مباشرة مع نساء شجاعات يروينَ بطولاتهن وذكرياتهن عن المآسي التي خلّفها الاحتلال. هكذا تقاسمت نسوة الفيلم ترميم الحكاية مما ينقصها في نسيج متين بصرف النظر عن الإمكانات التقنية المحدودة. ما يعلّمنا إياه جان شمعون ورفيقة دربه مي المصري أن الوثيقة لا تحتاج إلى أكثر من كاميرا على الكتف وميكرفون، وحقائق غير قابلة للتزييف، عبر إزاحة الستار عن حيوات بشر عاديين يرفضون مغادرة أرضهم وقراهم وقبور شهدائهم. كل هذه الوقائع ستعززها الطقوس المحليّة لبيئة الجنوب بصفتها ضرباً من المقاومة أيضاً، مثل إقامة عرس لمعتقل عائد إلى قريته، أو عتابا بصوت امرأة عجوز تنعى بها المفقودين، أو طقوس صلاة على أرواح الغائبين. في أحد أكثر المشاهد تأثيراً، تستعيد خديجة حرز نمو نبتة بين الصخور في محيط المعتقل، وكيف بزغت أوراقها عالياً، كأنها تستمد منها روح المقاومة وقوة البقاء، ومن زهرة القندول التي تتفتح كل عام في موسم محدد، جمالية المكان وروحه الصامدة، حرباً وراء أخرى. "زهرة القندول" شريط غير قابل للنسيان، استحق جوائز كثيرة، مثل جائزة النقّاد في "مهرجان لايبزغ الدولي للأفلام الوثائقية"، وجائزة أفضل فيلم وثائقي في "مهرجان قرطاج السينمائي"، وجائزة الجمهور في "مهرجان نانت للأفلام الوثائقية". لكن، ما مصير هذه الشخصيات بعد تلك السنوات؟ سيعود المخرجان، في فيلمهما" حنين الغوردل"(2008)، إلى الجنوب، مرّة أخرى. هناك سنلتقي خديجة حرز بعد حرب تموز (2006) لنكتشف أنها فقدت ابنها، حسن، الذي استشهد في الحرب، كما لو أنه يستكمل طريق المقاومة الذي سلكه أهله. كما يرصد الشريط أحوال شخصيات أخرى، مثل الرسّامة سوزان غزّاوي، التي تروي حكايتها الخاصة بعد أن فقدت منزلها ورسومها في إثر غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت، هي التي سبق أن تمزّقت لوحاتها تحت الأنقاض في حروبٍ سابقة. ويعرّج الشريط على الدمار الذي أصاب "متحف ذاكرة الاحتلال" أو معتقل الخيام في الجنوب. تأتي العودة إلى الجنوب، مرّة تلو مرّة، من باب ترميم الجرح وترميم الذاكرة وتوثيق البطولات، كما في فيلم "رهينة الانتظار" الذي يتناول حكاية الطبيبة ليلى التي تعمل على معالجة النساء الجنوبيات بصرف النظر عن قناعاتها الأيديولوجية المغايرة. أما فيلم "أرض النساء" فيتتبع حياة المقاوِمة الفلسطينية، كفاح عفيفي، التي أمضت أعواماً في معتقل الخيّام، بالإضافة إلى نماذج أخرى عن النساء الفلسطينيات واللبنانيات المقاومات، وسنلتقي كفاح عفيفي مجدّداً في "حنين الغوردل" في أثناء زيارتها، بعد حرب 2006 إلى ما تبقى من معتقل الخيام، الذي جرى محوه لاحقاً. وتكمن أهمية أفلام مي المصري وجان شمعون (1944- 2017)، إذاً، في أنها شهادة على بربرية الاحتلال الإسرائيلي وحربه على الذاكرة، أولاً وأخيراً. |