الموعظة القرآنية: قال الله تعالى: ﴿وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾1. تمهيد بالإضافة إلى ما ذكرناه من الآثار السلبية على المستوى الدنيوي، إن لترك الجهاد آثاراً سلبية أيضاً على المستويين المعنوي والأخروي هي أخطر وأفدح بكثير، حيث يؤدّي التهاون في أمر الجهاد والقعود عنه إلى عواقب وخيمة جداً على عاقبة الإنسان ومصيره. وسوف نقوم في هذا الدرس بالتعرّض لها وبحثها مفصّلاً على ضوء الآيات والروايات. من أهم هذه العواقب: بالإضافة، إلى خسران الآثار الطيّبة التي أشرنا إليها في الدرسين السابقين، يؤدّي التهاون في أمر الجهاد والقعود عنه إلى عواقب ونتائج غير محمودة، وسوف نقوم في هذا الدرس بالتعرّض لها وبحثها مفصّلاً على ضوء الآيات والروايات، ومن هذه العواقب: خراب دورُ عبادة الله من التبعات المضرّة لترك الجهاد، زوال دُور التوحيد ومَحَال عبادة الإنسان لله. فقد حذّر القرآن المجيد من أنّ الناس ما لم يقوموا بتكليفهم في الدفاع، فسوف تتهدّم دور عبادة الحقّ، وليس فقط دور عبادة المسلمين، بل جميع دور عبادة الأديان التوحيدية الأخرى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾2. وبالطبع، من الممكن أن يكون ذكر المساجد والمعابد في الآية قد ورد على سبيل المثال، وعليه فهي تتعدّاها لتشمل المراكز الثقافية، وتلك المسؤولة عن تقدّم الأفراد والمجتمع ونضجهما. ومن هنا نفهم أنّ المجال لتطوّر الناس وتكاملهم المعنوي والفكري لا يعود موجوداً في حال إهمال القيام بمسؤولية الدفاع، ويؤول مصير مثل هذه المراكز إلى الفناء والزوال. الذلّة والمهانة من العواقب الملموسة بشدّة للإعراض عن الجهاد، عاقبة الذلّة والمهانة، والتي تشمل كلّ أمّة تركت الجهاد في سبيل الله. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من ترك الجهاد ألبسه الله ذلّاً في نفسه، وفقراً في معيشته، ومحقاً في دينه، إنّ الله تبارك وتعالى أعزّ أمّتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها"3. ولذا، بعد أن يشجّع المؤمنين على هذا الحكم الإلهي، نجدُ أمير المؤمنين عليه السلام يشير إلى تبعات التهاون عن القيام به، حيث يقول: "... فمن تركَهُ رغبةً عنهُ ألبسَهُ اللهُ ثوبَ الذلِّ، وشمِلَهُ البلاءِ، ودُيِّثَ بالصَّغارِ والقَماءَة"4. فمن المشكلات الكبيرة التي واجهت أمير المؤمنين عليه السلام طوال مدّة حكمه، كانت عدم استعداد الناس لأجل الدفاع عن دين الله. وقد بيّن الإمام علي عليه السلام في العديد من الكلمات والخطب عدم رضاه عن أصحابه وموقفِهم من مسألة الجهاد، موجّهاً انتقاداته لهم، وموضّحاً عواقب الضعف عن القيام بهذا الواجب في السياق. وفي أحد هذه الموارد، يشير الإمام عليه السلام إلى أنّ القعود عن الجهاد يؤدّي إلى انتصار العدو وانفلات زمام إدارة المجتمع من يد الحكّام، حيث يقول عليه السلام: "... فتواكلتم وتخاذلتم حتى شُنّت عليكم الغاراتُ، ومُلكتْ عليكمُ الأوطان"5. ومن مظاهر هذه الذلّة التي تشملهم أنّهم يعجزون عن أن يكونوا قوّة يُنتقم بها من الباطل، أو يستفاد منها في تحقيق أيّ من أهداف الإسلام، حيث يقول عليه السلام: "فما يدركُ بكم ثارٌ ولا يُبلغُ بكم مُرام"6. وفي مثل هكذا مجتمع لا يتوقّع حدوث التوفيق والتقدّم، ويوماً بعد يوم يزداد الضعف وتقلّ الاستفادة من المعارف الإلهية، وسيُبتلى هذا المجتمع بسقوط القيم والانحطاط. وتشهد تجارب التاريخ على أنّ المجتمع الذي كان أمير المؤمنين عليه السلام يعيش فيه، والذي من ثمَّ تركَ الجهاد، قد عانى من عواقب وخيمة وظلم شديد، إلى الحدّ الذي تسلّط عليه - وخلال مدّة قصيرة - أشخاص كانوا يخنقون أقلّ صوت يرتفع طالباً الحقّ. وبوقاحة تامّة، عمدوا إلى قتل الأئمة عليهم السلام، الذين ارتفعوا شهداء في سبيل الله، وفقد كلّ إنسان قدرة الدفاع عن الحقّ. فهل تتصوّر ذلّة أكبر من هذه الذلّة، يمكن لها أن تصيبَ مجتمعاً إسلامياً؟ وبالإضافة إلى التحذيرات المتكرّرة من القعود عن الجهاد، أشار القرآن الكريم في أحد المواطن، وبشكل صريح، إلى عاقبة الذلّة في الدنيا عند تركه، حيث ذكر أنّ بني إسرائيل قد عوقبوا بالتيه أربعين سنة على أثر عصيان هذا الأمر الإلهي: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾7. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشأن الإعراض عن الجهاد والانشغال بالدنيا،قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لئن أنتم اتبعتم أذناب البقر وتبايعتم بالعِينَة وتركتم الجهادَ في سبيل الله، ليلزمنّكُم الله مذلّة في أعناقكم ثمّ لا تُنزعُ منكم حتى ترجعوا إلى ما كنتم عليه أو تتوبوا إلى الله"8. ضعف الإيمان دين الله هو عبارة عن مجموعة من الأحكام والقوانين الإلهية التي تزداد درجة إيمان كلّ فردٍ بمقدارها يعمل بها ويأخذها بقوّة، كما أنّ تلك الدرجة تنقص وتضعف في المقابل بقدر ما يترك العمل بهذه الأحكام ويميل بعيداً عنها. وبناءً على هذا الأساس، كل من يترك الجهاد في سبيل الله، فإيمانه والتزامه العملي بالدين سيكون ناقصاً وضعيفاً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الشأن: "من لم يَغزُ أو يُحدّث نفسهُ بغزوٍ مات على شُعبةٍ منَ النِّفاق"9. الحرمان من التكامل المعنوي يُعدّ الأشخاص الذين يمتنعون عن أداء هذه الفريضة الإلهية الكبرى، أشخاصاً قد فقدوا الفهم الصحيح، وبتعبير أمير المؤمنين عليه السلام: "فمن تركه رغبة عنه... وضُرب على قلبهِ بالأَسْداد"10. ويكتب الشهيد مطهري قدس سره كلاماً بديعاً في شرح هذا الحديث، فيقول: "إنّها لنكتة فريدة أن يعتبر عليّ عليه السلام بصيرة القلب ونورانيّته موقوفة على هذا الأمر (الجهاد)، فقد ذُكر في منطق الإسلام صراحة أنّ البصيرة وليدة العمل، ولكن لم يشرْ في أي مكان وبمثل هذه الصراحة إلى أنّ عملاً اجتماعياً كالجهاد هو ركن من أركان التكامل المعنوي والسلوك إلى الله، بحيث إنّ تركه يوجب ظهور الحُجب على القلب"11. الميل نحو الباطل إنّ الأفراد الذين لا يهبّون لنصرة الحقّ، ويحترفون السكون والحيادية، هم أشخاص قد ابتعدوا عن الحقّ بلا أدنى شكّ، ومالوا إلى الباطل. وعلى أثر ذلك، لم يَعدْ هؤلاء يملتكون لياقة رفع لواء الإسلام، والدين القويم، وضاعت من أيديهم حكومة الحقّ، التي أُودِعَت أمانة عندهم تماماً، كما قال الإمام عليّ عليه السلام بهذا الشأن: "وأُديل الحقّ منه بتضييع الجهاد"12. الحرمان من العدالة سوف يُحرَم تاركوا الجهاد من العدالة والإنصاف، وسوف يتعرّضون للحرمان ولامبالاة من قبل الآخرين بسبب قعودهم والإعراض عن هذا الواجب الإلهي، كما قال الإمام عليّ عليه السلام: "ومنع النّصفَ"13. وفي سياق شرحه لهذه الجملة من كلام الإمام علي عليه السلام، يقول الشهيد مطهري: "إنّ المراد من كلامه عليه السلام هو أنّه ما دامت أمّةٌ ما أمّةً غير مجاهدة، لا يَحسِبُ الآخرون لها حساباً، ولا يُبقي لها الآخرون أي كيان، ويتشدّدون في حرمانها من أيّ نوع من أنواع الإنصاف"14. فما ينتج عن ذلك هو أنّ حقوق هذه الأمّة تُداس في المحافل السياسية والاقتصادية والعسكرية والدولية، ولا يعيرون طلباتها وطروحاتها أيّة أهمّيّة. عذاب الآخرة إنّ العذابَ الأخروي لتاركي الجهاد يكمن في البعد عن رحمة الله والسقوط في نار جنهم. ولهذا، نجد أنّ القرآن المجيد يهدّد في سورة التوبة أولئك المنافقين الذين امتنعوا عن الذهاب إلى الجبهة بحجّة حرارة الطقس، واعتبروا أنفسهم معذورين أمام الله، نجده يهدّدهم بعذاب جهنم، فيقول تعالى: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾15. وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾16. وبالطبع، إنّ لفظ هذه الآية مطلق، ولذا يمكنُ أن يكون شاملاً للعذابات الدنيوية أيضاً، وخصوصاً أنّ الله قد هدّدهم في سياق الآية بالهلاك الدنيوي وباستبدالهم بقوم غيرهم لا يتركون الجهاد. |