لكلّ حربٍ أو جهد وجهاد هدفٌ وغاية. وإذا كنّا نتحدّث عن إنسان، أو جماعة إنسانيّة حكيمة وعاقلة فلا بدّ من أن تكون أفعالها وحركاتها وسكناتها هادفةً بعيدة عن العبثيّة واللغو. وبالتالي يمكن اعتماد الهدف والغاية الدافعة إلى الحراك كمعيارٍ للتمييز بين النصر والهزيمة. وتتنوّع أهداف الجهاد في الإسلام بحسب الدوافع التي تدفع إلى امتشاق السيف والسير في سبيل تحقيق الغاية التي ينتهي إليها القتال. وربّما يمكن استقصاء أهمّ أنواع الجهاد بحسب الفكر الإسلامي وبحسب التجارب التي مرّت في تاريخ الأمة بدءًا من رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مرورًا بالنهضات والحركات الصالحة التي خاضها القادة المعصومون عليهم السلام من بعد انتهاءً ببعض التجارب التي عُقِد فيها اللواء لقادة مصلحين مرّوا في تاريخ الأمّة القديم أو الحديث وما بينهما. وأهمّ هذه الأنواع ما يأتي: 1- الهجوم: خضع مفهوم الجهاد الابتدائيّ لكثير من النقاشات الفقهيّة اللاحقة وأخضِعت بعض حروب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لنقاش طويل لجهة تصنيفها في دائرة الجهاد الابتدائيّ أو الدفاعيّ. وأيًّا يكن الموقف من هذا المفهوم وأيًّا يكن التحليل الذي يبتنّاه الباحث لما خاضه رسول الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ له محلًّا آخر غير ما نحن فيه الآن. وما يعنينا في بحثنا هذا هو أنّ النصر في الجهاد الابتدائيّ يُقاس بمدى تحقّق الأهداف التي ابتغاها وليّ الأمر من هذه المعركة أو تلك. والأهداف المتصوّرة كثيرةٌ لعلّ أهمّها: دفع خطرٍ محدقٍ وهو ما يُعرف بالحروب الاستباقيّة، وفتح الباب في وجه الدعوة، ورفع الظلم عن شعوب ترزح تحت ظلمِ حاكمٍ متعسّف. فإذا تحقّقت هذه الأهداف تجلّى النصر في نهاية المعركة وإلا تكون الهزيمة هي الغاية التي انتهى إليها القتال. وإذا عدنا إلى تاريخ الأمّة الإسلاميّة نجد أنّ عددًا من المعارك التي خاضها المسلمون انتهى بالنصر الذي أسّس لانتصارات لاحقةٍ فتحت الأبواب على مصاريعها في وجه الدعوة الإسلاميّة. وربّما تكون معركة بدرٍ هي النموذج الأوضح لمثل هذا النوع من المعارك، بناء على تصنيف معركة بدر في دائرة الجهاد الابتدائيّ. 2- الدفاع: عندما يحيط بالإسلام أو المسلمين خطرٌ داهمٌ لا بدّ لهم من دفعه، مهما بلغ حجم التضحيات. وفي مثل هذه الحالة يتحقّق النصر عندما تستطيع الأمّة إعاقته عن تحقيق أهدافه. وقد عرف تاريخ الإسلام الأوّل مثل هذا النوع من النصر في معركة الخندق عندما حاصر الأحزاب المدينة وأرادوا اقتحامها لإلحاق الهزيمة بالإسلام والمسلمين في دولتهم الفتيّة آنذاك. ويصوّر القرآن الكريم حالة المسلمين بعد حصارهم على يد الأحزاب التي تكتّلت وحشدت قواها من كلّ حدب وصوب للقضاء على الإسلام، فيقول عزّ وجل، كاشفًا عن حالة المسلمين والرعب الذي أصاب الكثيرين منهم: ﴿إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾[1]. هذا ولكنّ بطولة أمير المؤمنين عليه السلام وغيره من المجاهدين، واقتراحات سلمان الفارسيّ، والمدد الإلهيّ: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا﴾[2]. كلّ ذلك قلب المعادلات رأسًا على عقب وحوّل نتيجة المعركة لصالح المسلمين. وفي مثل هذه الحالة وعلى الرغم من أنّ المسلمين ولو على المدى المنظور لم يكسبوا شيئًا سوى قدرتهم على الصمود في وجه العدوّ ومنعه من تحقيق أهدافه، فإنّهم انتصروا دون شكّ. ومثل هذا الكلام يُقال في كلّ المعارك التي خاضتها الأمّة الإسلاميّة في مواجهة العدوّ، ومن أبرزها مواجهة المقاومة الإسلاميّة الكيان الغاصب، وقدرتها على منعه من تحقيق أهدافه، وإرغامه على الفرار السريع من الأرض التي احتلّها قبل أن يستقرّ فيها. النصر على المدى البعيد من المعلوم أنّ الإسلام ليس دين جغرافيا، فالأرض لا تعني للإسلام إلا من حيث هي محلٌّ لإقامة العدل والعيش بحريّة وكرامة، وبما هي مكان يسمح للمرء أن يعيش فيها بطريقة تنسجم مع منظومة القيم الإلهيّة التي يريدها الله أن تكون منهاجًا للحياة. ومن هنا نجد أنّه عزّ وجلّ لا يقبل عذر من يعتذر بالضغوط التي تؤدّي إلى الاستضعاف: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾[3]. وبناء على هذه النظرة إلى الأرض والحياة، يكون النصر ولو بعد حينٍ، وعلى المدى البعيد، وذلك عندما يقدر العدوّ على تحقيق بعض أهدافه القريبة أو الماديّة، ولكنّه يعجز عن تحقيق الأهداف البعيدة أو المعنويّة. وفي مثل هذه الحالة يكون النصر من نصيب المواجه ولو انهزم على المدى القريب. وأفضل الأمثلة وأوضحها نهضة الإمام الحسين عليه السلام، إذ ركز يزيد بين السلّة والذلّة، فأبى عليه السلام الخضوع وأعلن موقفه الخالد: "هيهات منّا الذلّة" فاستُشهد ولكنّه بقي حيًّا منارة للأحرار ومشعلًا على مدى التاريخ، وعجز يزيد عن إذلاله، وحقّق هدفه وهو الإصلاح في أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومن هنا نجده عليه السلام يُعبّر عن هذا النصر بعبارة بالغة وبليغة حيث يقول: "من لحق بي استُشهد، ومن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح"[4]. ويمكن تفسير هذه العبارة الشريفة بأكثر من معنى أحدها: أنّ الفتح (النصر) سيكون من نصيبنا حتى لو استشهدنا ولن ينال هذا الشرف من تخلّف عنّا. |