قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ﴾1. يشير الله عزَّ وجلّ في هذه الآية والآيتين التاليتين إلى عوامل النصر الحقيقية في القتال، وهي عبارة عن الاستقامة، والثبات عند لقاء العدو، والاتصال بالله بالذكر، والطاعة لله والرسول، وتجنّب النّزاع والشّقاق، والصّبر على تكاليف المعركة، والحذر من البطر، والرياء، والبغي2. الإشارات والمضامين: 1- ضرورة ثبات المؤمنين عند لقاء العدو: كلمة (لقاء) المستفادة من (لقيتم)، يكثر استعمالها في القتال. والفئة بمعنى الجماعة "جماعة المقاتلين"، والمراد منها هنا الكفّار الحربيين أو الباغين3. و(الثبات) في هذا المورد عكس الفرار من العدو، والثبات بحسب ما له من المعنى أشمل من الصَّبر الذي يأمر به في قوله: ﴿وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾4. فعبارة (اثبتوا)، أمر بمطلق الثّبوت أمام العدو، وعدم الفرار منه5. ووجوب الاستقامة في هذه الآية لا يتنافى مع الآية 16 من سورة الأنفال- آية التحرّف والتحيّز أو آية تكتيكات المواجهة - ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾، فهذه الآية فيها عدة أمور: أ- النهي في الآية تعلق بأن لا يولّي المؤمنون الأدبار للأعداء، أي استدبار العدو واستقبال جهة الهزيمة، فخطاب الآية عام غير مختص بوقت دون وقت أو غزوة دون غزوة، فالحرمة متعلقة بالقرار من الزحف. ب- يُستثنى أمران من الآية: أولاً: التحرّف لقتال. ثانياً: التحيّز إلى فئة. 2- الثبات في مقابل العدو من لوازم الإيمان الواقعي بالله: المخاطب في هذه الآية هم المؤمنون، وفيه دلالة على أنّ الثبات في مقابل العدوّ من شروط الإيمان6، بمعنى أنّ ثبات القدم في جميع الميادين الخاصّة بالقتال مع أعداء الحقّ، من العلامات البارزة للإيمان7. 3- وجوب الذكر الدائم لله حين لقاء العدو وقتاله: ﴿اذْكُرُواْ اللّهَ﴾ معطوفة على ﴿فَاثْبُتُو﴾، وهي في الواقع جواب الشرط ﴿إِذَا لَقِيتُمْ﴾، وعلى هذا التقدير: المقصود بالذكر في هذه الآية الذكر الكثير لله عند قتال العدو8. 4- فلسفة ضرورة المداومة على ذكر الله في ميدان القتال: السبب الذي دعا إلى تقييد الذكر "بالكثير"، هو تجدّد روح التقوى عند المجاهدين كلّما لاح لهم ما يصرف نفوسهم إلى حبّ الحياة الفانية، والتمتّع بزخارفها، والخواطر النفسانية التي يلقيها الشيطان بتسويله. فالمداومة على ذكر الله تجدّد روح التقوى كلّ لحظة في قلوبهم، وتعمل على التقليل من شأن الأهوال والمخاطر التي يتعرض لها المقاتل في ميدان المعركة، لأن ظرف القتال والميدان ليس فيه إلا إزهاق النفوس، وسفك الدماء، ونقص الأطراف، وكل ذلك يهدد الإنسان بالفناء عما يحبه، فذكر الله يعينه على جهاده، والتثبت بفكرته بالظفر على عدوه الذي يهدده بالفناء9. ويشعره بأن الله سنداً قوياً لا تستطيع أي قدرة في الوجود أن تنقلب عليه في ساحة المعركة، وأنه إذا قتل فإنه سينال السعادة الكبرى ويبلغ الشهادة العظمى، وجوار رحمة الله، فذكر الله يبعث على الاطمئنان، والقوة، والقدرة على الثبات في نفس المقاتل10، ويزيل من نفسه حب الزوجة والمال، والأولاد، وكل ما يضعفه ويزلزله كما ورد في دعاء أهل الثغور عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "وأنسهم عند لقائهم العدو ذكر دنياهم الخداعة، وامح من قلوبهم خطرات المال الفتون، واجعل الجنة نصب أعينهم"11. قال الله تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾12. توضيح المعاني: ﴿وَلاَ تَنَازَعُو﴾: لا تختلفوا فيما بينكم. ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾: تذهب قوتكم وهيبتكم. الإشارات والمضامين: 1- ضرورة إطاعة المجاهدين لأوامر الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ظاهر السياق أنّ المراد من جملة ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ...﴾ إطاعة ما صدر من ناحيته تعالى وناحية رسوله من التكاليف والأنظمة المتعلّقة بالجهاد والدفاع عن حومة الدين ووجود الإسلام، والمسائل التي لها تعلق بالمعركة كالابتداء بإتمام الحجّة قبل القتال، وعدم التعرّض للنساء والذراري (الأطفال)، وغير ذلك من أحكام التي تتعلق بموضوع ساحة المعارك. 2- ضرورة إطاعة المجاهدين للقائد الأعلى في القتال: أي وأطيعوا الله ورسوله في الأوامر المرشدة إلى أسباب الفلاح في القتال وفي غيرها، وأطيعوا رسوله فيما يأمر وينهى عنه من شؤون القتال وغيرها، لكونه يمثل القيادة العامة بما فيها القيادة العسكرية، فطاعة القائد العام هي أساس وقوام النِّظام الذي هو ركن من أركان الظفر، فكيف إذا كان هذا القائد مؤيداً بالوحي، والنبوة، والتسديد الإلهي(!)13. 3- ضرورة اجتناب المجاهدين للإختلاف أثناء القتال: التَّنازع هو الميل إلى شيء ما، فكلّ واحد من المتنازعين في مسألة يميل إلى غير ما يميل إليه الآخر14، والآية أعلاه تنهي المجاهدين المؤمنين عن الاختلاف والتنازع. وبيّن تعالى في هذه الآية أنّ النزاع يوجب أمرين: أحدهما: حصول الفشل والضّعف. والثاني: خسارة الدولة أو الغلبة، فإن اختلاف الآراء يخل بالوحدة ويوهن القوة15. 4- ضرورة صبر المجاهدين على مكاره القتال: الثّبات أعمّ من الصبر، فالصبر هو ثبات القلب مقابل المكاره بأن لا يضعف، ولا يفزع، ولا يجزع، وبالبدن بأن لا يتكاسل، ولا يتساهل، ولا يزول عن مكانه، ولا يعجل فيما لا يحمد فيه العجل، فالصبر ثبات خاصّ، فقوله: ﴿وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، أي الزموا الصبر على ما يصيبكم من مكاره القتال مما يهدّدكم به العدو16. 5- الله ناصر المجاهدين الصابرين: المراد من لفظ (مع) في جملة ﴿...إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، المعية بالنصر والظفر17، بمعنى أنّه الضامن للفوز والنصر للصابرين18. 6- الاعتقاد بمعيّة الله للمجاهدين الصابرين ممهّد للصَّبر على المكاره في القتال19: يستفاد من ورود جملة ﴿...إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ بعد الأمر بالصَّبر، مدى تأثير هذا الإعتقاد على صبر المجاهدين على مكاره القتال. وعلى هذا التقدير، فجملة ﴿...إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ في نفسها محفّزة على الصبر. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾20. توضيح المعاني: ﴿حَرِّضِ﴾: من الترغيب والحثّ على فعل الشيء بما يبعث على المبادرة. الإشارات والمضامين: 1- ترغيب المؤمنين بقتال الكافرين من مهام قائد المجتمع الإسلامي: التحريض لغة، التحضيض، والترغيب، والحثّ21 على شيء. ويستفاد من هذه الآية أنّ من مهام القائد، حثّ الناس على الجهاد22، وترغيبهم فيه بكافّة أسباب التحريض والترغيب من ذكر الثواب الموعود على القتال، وبيان ما وعد الله لهم من النصر والظفر23. 2- ضرورة تقوية روحيّة المقاتلين المؤمنين: مهما يكن مستوى الاستعداد لدى المقاتلين، فيجب قبل بدء القتال (وبعده) تقوية البعد الروحي عندهم24. 3- أهل الإيمان مكلّفون بمقاتلة الكفّار: يستفاد من جملة ﴿...مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ...﴾ في آخر الآية، أنّ المراد من "القتال" قتال الكفّار25. 4- الصبر والمقاومة في ساحة القتال من العوامل المهمّة لانتصار المؤمنين على الكفّار26: يستفاد من توصيف المؤمنين بالصابرين، واشتراط الصّبر للانتصار على القوى الأكثر عدداً، أنّ الصّبر من العوامل المهمة للانتصار في ساحة القتال. 5- نفي المعادلة العددية على مستوى عدد المقاتلين المؤمنين مقابل الكفّار: هذه الآية تنفي المعادلة العددية، وتؤكّد على روحية الإيمان والصبر، وحتى لا يُعتَقد أنّ انتصار عشرين مؤمناً على مئتين فيه مبالغة، تكرّر أنّه إذا تحقّق فيهم الإيمان والصبر، فإنّ مئة يغلبون ألفاً، ومثاله: معركة بدر، وأُحُد، والأحزاب، ومُؤْتَة27، والوقوع خير دليل على الإمكان، فكيف إذا كان هذا الوقوع متكرراً؟. 6- عدم امتلاك البصيرة والمعرفة سبب هزيمة الكفّار في مواجهة المؤمنين الصابرين: الباء في جملة ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾ للسببية، والجملة تعليلية متعلّقة بقوله: ﴿يَغْلِبُو﴾، وعليه معنى الآية: إن يغلب عشرون من المؤمنين الصابرين مئتين من الذين كفروا، أو يغلب مئة من المؤمنين الصابرين ألفاً من الذين كفروا، كلّ ذلك بسبب أنّ الكفّار قوم لا يفقهون. وفقدان الفقه، - أي العلم والبصيرة -، في الكفّار لاتكائهم على هوى النفس، واعتمادهم على ظاهر ما يسوِّله لهم الشيطان. وعليه، فإنّ الكفّار متّفقون ما لم يلح لائح الموت حيث يرونه فناءً، وأمّا في المخاوف العامّة، والمهاول الشاملة، فيتفرّقون ويفرّون بسبب الجهل الذي يلازمه الكفر والهوى28. 7- البصيرة والمعرفة من عوامل الانتصار: فقدان العلم والبصيرة في الكفّار وبالمقابل ثبوته في المؤمنين، هو الذي أوجب أن يغلب العشرون من المؤمنين، المائتين من الذين كفروا، وإنّما يغلب المؤمنون على ما بُنيَ عليه الحكم في الآية، لأنّ المؤمنين إنّما يقدمون فيما يقدمون عن إيمان بالله، وهي القوّة التي لا يعادلها ولا يقاومها أيّ قوّة أخرى، لابتنائه على البصيرة والفهم الصحيح، حيث يتم وصفهم بكلّ سجية نفسانية فاضلة كالشجاعة، والشهامة، والجرأة، والاستقامة، والوقار، والطمأنينة، والثقة بالله، واليقين بأنّه على إحدى الحسنيين، بعبارة أخرى: فهم وبصيرة المؤمنين اللذين يترافقان مع العلم والايمان هما سبب الغلبة على الكفّار29. قال الله تعالى: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾30. أمرت الآية السابقة المسلمين بعدم الفرار من مقاتلة العدو حتى لو كان عددهم عشرة أضعاف المسلمين، بينما نزلت النسبة في هذه الآية إلى ضعفين. هذا الاختلاف الظاهري أدى إلى إعتبار البعض أنّ حكم الآية السابقة نُسِخ بهذه الآية، أو حمل حكم الآية السابقة على المستحبّ واعتبار حكم هذه الآية واجباً. واعتبر بعض المفسّرين أنّ هذا الاختلاف الظاهري ليس دليلاً لا على النسخ ولا على الاستحباب، وإنّما في كلّ آية حكم لمورد محدّد، فعندما كان المؤمنون ضعفاء، كان مقياس النسبة ضعفي العدد، ولكن هذه النسبة ترتفع إلى عشرة أضعاف عندما يصبح المؤمنون أقوياء ومدرَّبين. وعليه فالحُكمان المذكوران في الآيتين مرتبطان بمجموعتين مختلفتين في ظروف مختلفة31. الإشارات والمضامين: 1- الضعف الروحي من أسباب تدنّي القدرة على القتال: المراد بالضعف في عبارة ﴿وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفً﴾، الضعف في الصفات الروحية الذي ينبع من ضعف الإيمان، لأنّ الإيقان بالحقّ فقط هو الذي ينبعث منه جميع السجايا الحسنة الموجبة للفتح والظفر، كالشجاعة، والصبر، والرأي المصيب. والدليل على أنّ المقصود ليس الضعف من حيث العدّة والقوّة، هو أن المؤمنين كانوا يزدادون عدداً وقوة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم32. ولكن العلة هي علة الضعف الروحي للمسلمين، لأنهم رغم كثرة عددهم، اختلط بهم من هو ضعيف اليقين والبصيرة33. وعليه: يُستفاد من هذه الآية أنّ الضعف الروحي يؤدّي إلى تدنِّي القدرة على القتال. 2- التخفيف إلى واحد مقابل اثنين ليتحقق النصر: ظاهر قوله تعالى: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ...﴾ كما قيل، كون الآيتين مسوقتين لبيان الحكم التكليفي، لأنّ التخفيف لا يكون إلاّ بعد التكليف، فالمراد في الآية الأولى: ليثبت الواحد منكم للعشرة من الكفّار، وفي الآية الثانية: الآن خفّف الله في أمره، فليثبت الواحد منكم للاثنين من الكفّار34. روي عن الامام الصادق عليه السلام: "أما علمتم أنّ الله عز وجل قد فرض على المؤمنين في أول الأمر أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين، ليس له أن يولّي وجهه عنهم، ومن ولاَّهم يومئذ دبره فقد تبوَّء مقعده من النار، ثم حوَّلهم رحمة منه لهم، فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفاً من الله عز وجل للمؤمنين، فخفّف الحكم السابق"35. 3- انتصار المؤمنين الصابرين على العدو مناط بالإذن الإلهي: جملة ﴿...بِإِذْنِ اللّهِ...﴾ تقييد لقوله ﴿يَغْلِبُو﴾، وعليه يكون معنى الآية: أنّ الله أذن بالغلبة والنصر على الكفّار، نتيجة كونه تعالى شخّص بأن هؤلاء الذين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم مؤمنون صابرون، وبذلك يظهر أن قوله: ﴿وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ يفيد فائدة التعليل بالنسبة إلى الإذن36. 4- الله ناصر المجاهدين الصابرين: على الرغم أنّنا لا ندرك جوهر وحقيقة المعيّة الإلهية للصابرين في الآية ﴿وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ولكن نعلم علم اليقين بأنّ من كان الله تعالى معه، فهو الغالب المنصور ولن يغلبه أحد، وعليه يمكن أن نفسّرها بمعيّة المعونة والنصرة.37 نعم، يمكن القول بأن الآيات يحكيها القرآن الكريم تحكي قصة مصداق واحد من المجاهدين في مقطع زمني محدد، ولما كانت الآيات القرآنية عامة، فهي قابلة للانطباق على مصاديق أخرى متى ما توفّر عامل الإيمان، والصبر، والنصرة لله ولدينه، والجهاد في سبيله، والمعية والنصرة الإلهية قابلة للتكرار كذلك. قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾38. الوعد المذكور في الآية، كان يوم أُحُد، لأنّ المسلمين كانوا يقتلون المشركين، حتى إذا أخلّ الرماة بمكانهم الذي أمرهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء فيه أتاهم المشركون بقيادة خالد بن الوليد من ورائهم، فقتل عبد الله بن جبير ونفر من المؤمنين ممن بقي معه من الرماة، فاغتنم الفارّين من المشركين بارقة النصر وكرّوا على المؤمنين، فقتلوا منهم سبعين رجلاً منهم حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم39. توضيح المعاني: ﴿تَحُسُّونَهُم﴾: تقتلونهم، والحسّ هو القتل على وجه الاستئصال. ﴿فَشِلْتُمْ﴾: الفشل هو الجبن والضعف. ﴿صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾: ردّكم عن الكفّار بعد أن أمكنكم منهم بسبب معصيتكم أمر النبي. ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾: يمتحنكم ويختبر إيمانكم. الإشارات والمضامين: 1- تحقّق الوعد الإلهي بالنصرة في معركة أُحُد: وَعَد الله المسلمين بالنُّصرة قبل معركة أُحُد، إلا أنّه شرطها بصبر وتقوى المسلمين في قوله: ﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾40. في بداية المعركة كان المسلمون يلتزمون بالصبر والتقوى، فصدقهم الله وعده وشملهم بنصره، والدليل على ذلك: أنّ المسلمين كانوا يقتلون المشركين41 كما يوحي به قوله تعالى: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ﴾ المتعلّقة بعبارة ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ﴾42. 2- إبادة العدو من الأهداف المشروعة للجهاد: كلمة "الحسّ" تعني القتل على وجه الاستئصال43، ولذا كان المسلمون يريدون في دفاعهم بوجه العدو المشرك إبادتهم بإذن الله وأمره. 3- التراخي، التنازع وعصيان أوامر القيادة من عوامل الهزيمة في الحرب: في معركة أُحُد، أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من الرماة بقيادة عبد الله بن جبير بحراسة الثغر الموجود في جبل "عينين" وقال لهم: "لا تبرحوا هذا المكان، فإنا لانزال غالبين ما ثبتم مكانكم". وبعد بدء القتال وظهور علامات هزيمة المشركين، أدّت الوسوسة بجمع الغنائم من قِبل الرماة إلى فتح ثغرة في دفاعات المعركة، وتراخى الرماة في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتنازعوا أمرهم بينهم في مسألة الغنائم، فكانت نتيجة ذلك هزيمة المسلمين في معركة أُحُد. كلمة "فشل"، أي فشلتم في المحافظة على أمر القائد وتراخيتم بتوجيهاته ورأيه، والمراد من ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ﴾، اختلاف عبد الله بن جبير ومن معه مع بقية الرماة الآخرين في في أنه هل يجب الحفاظ على أماكنهم ومواقعهم أم يجب اللحاق بالمشركين ونيل الغنيمة. والمراد من ﴿وَعَصَيْتُم﴾، مخالفة فئة من الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحفاظ على أماكنهم44. 4- الثبات، وإطاعة أوامر القيادة من أسباب تحصيل الإذن الإلهي بالنصر: كلمة ﴿بِإِذْنِهِ﴾، تفيد بأنّ النصر رهن "إذن الله"، وأنّ المسلمين في المرحلة الأولى من المعركة قد هيّأ الله لهم أسباب الانتصار، وحين تراخوا، وتنازعوا، وعصوا ضيّعوا أسباب النصر المهيئة لهم بإرادتهم، وفوّتوا على النبي والمؤمنين بهجة النصر، وهذا يعني أن إذن الله بالنصر أو الهزيمة معلّق على إرادة الإنسان، - إلا في المواطن التي يشاء الله فيها الحسم لصالح الرسالات بما لا يدع فيه للإنسان أي خيار وفق ما يريده الله من مصالح ومفاسد في الرسالات -. 5- انتصار المجاهدين مرتبط بالإذن الإلهي: فاعل ﴿أَرَاكُم﴾ هو الله عزّ وجل، والمراد من "ما" في عبارة ﴿مَّا تُحِبُّونَ﴾ النصر45. 6- طلب الدنيا يؤدي إلى التراخي، والتنازع، وعصيان أوامر القيادة في الحرب: جملة ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَ﴾ دليل جملة ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم﴾46، وعليه يتبيّن: أنّ طلب بعض المسلمين للدنيا في معركة أُحُد أدّى إلى التراخي والتنازع وعصيانهم لأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. 7- طلب الآخرة يؤدي إلى الثبات، والاتّحاد، وإطاعة أوامر القيادة في الحرب: بما أنّ طلب الدنيا ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَ﴾ يؤدّي إلى الفشل كما ورد في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾، فالصفات المقابلة تكون كالتالي: الدنيا يقابلها الآخرة، والفشل يقابله النجاح، والتنازع يقابله الاتحاد، وبعبارة أخرى: طلب الآخرة ﴿وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ عبارة تميز بين جهتين جهة تريد الدنيا ولها خصائص تميزها وتتمتع بها كصفة التنازع، والفشل، وعصيان أوامر القيادة. وجهة تريد الآخرة، تحافظ على أوامر القيادة، وتتمتع بصفات الثبات، والنجاح، واتّحاد الرأي. 8- الانسحاب التكتيكي في الحرب أثناء الظروف الاضطرارية: بعد أن فتح المشركون ثغرة في دفاعات المعركة، وقاموا بهجوم معاكس، بدأ بعض المسلمين بالفرار، والبعض الآخر لم يفرّ، فانقسموا بذلك فريقين: • منهم من فرّ، فعصى أحكام الشريعة، وخلّف النبي في أرض المعركة وحيداً. • ومنهم من ثبت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم الأقلون عدداً، وبسبب قلتهم انسحبوا من أرض المعركة بعد إذن الله لهم بذلك. 9- الهزيمة في ساحة القتال امتحان إلهي: جملة ﴿صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾، أي كفكم عن المشركين بعد ظهور الفشل، والتنازع، والمعصية، والاختلاف بينكم، ليمتحنكم، ويختبر صبركم، ليميز المؤمن الراسخ في إيمانه عن المنافق47، وهذا يظهر بشكل جلي في ساعات الشّدة وهذا يعني أنّ الله رفع النصرة عنكم بسبب معصية أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووكلكم إلى أنفسكم فهُزمتم. فالهزيمة امتحان جعله الله لتتوبوا وترجعوا إليه وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره. 10 - التراخي، التنازع وعصيان أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الذنوب: يستفاد من جملة ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ﴾ أنّ التراخي، والتنازع، وعصيان أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أُحُد من الذنوب، وكانت تستحقّ العقاب48، ولكن الله عفا عنهم برحمته من دون استحقاق لهم لذلك، لمكان معصيتهم له. 11- الفضل الإلهي منشأ نصرة المجاهدين والعفو عن الذنوب: منشأ جملة ﴿وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾، لأنه يحب المؤمنين، ولا يتركهم وشأنهم، ولا يكلهم إلى أنفسهم إلا بعض الأحيان ليتنبهوا، ويثوبوا إلى رشدهم، فيزدادوا التصاقاً بالشريعة، واهتماماً بالمسؤوليات، ويقظة، وإحساساً49. |