هناك دورة إلهية تقام مسابقتها في كل عام تبلغ ذروتها في ليلة القدر، وما بعد ليلة القدر إلى يوم العيد فترة ملحقة بالدورة، ليلتحق بها وبسابقتها من لم يلتحق، ثم توزع الجوائز في يوم العيد.
هذه الدورة الإلهية، دروة ليلة القدر تبدأ بإطلالة هلال شهر رجب.
لابد من الوقوف على بعض أسرار هذا الشهر المبارك التي يهب الله تعالى أنوارها للرجبيين، علّ هذا القلب ببركة أجواء البعثة ومولد الأمير في رجب، يصبح مؤهلاً بعض الشئ، ولدى الله تعالى المزيد.
شهر رجب شهر مجهول، ولأننا نجهله فنحن نتعاطى معه كغيره من الشهور، ولو كنا نعرف قيمته لانتظرناه بفارغ الصبر، ولاغتنمنا فرصته الإلهية الفريدة.
لهذا الشهر شخصية خاصة ولشهر شعبان شخصية خاصة وكذلك لشهر الله تعالى، وللأشهر الثلاثة معاً، شخصية متميزة تتضح بيسر معالمها من الروايات لدى مراجعتها.
من الأعمال المستحبة من أول ليلة من شهر رجب، أن يكثر الإنسان فيها من ذكر شهر شعبان وشهر رمضان، لأن الشخصية واحدة، ولأن الدورة طيلة هذه الأشهر واحدة. صحيح أن كل أيام السنة ينبغي أن تكون أيام عبادة ولكن هناك امتياز لأيام وليال عن غيرها.
إذاً نحن على أبواب شهر هذه بعض ملامح أهميته وعظمته.
والسؤال: ما هو الهدف من هذه الدورة الإلهية التي تبدأ بأول ليلة من شهر رجب؟
الجواب: الأهداف ثلاثة: ليتوب العاصون، ويلحق المقصرون، ويسبق العاملون.
ربما تسمع من عالم من علمائنا كلاماً يكشف عن شديد حرقته على أصحاب الضلال، المنحرفين، يتحرق عليهم، لماذا؟ لأنه يريد لهم الخير والهداية، يريدهم أن يرجعوا إلى الله عز وجل.
إذا كان عالم من علمائنا يحمل هذه الحرقة على أهل الضلال، فكيف هي الحالة التي يعيشها الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، أو أي من المعصومين؟
وكم هي الرحمة الإلهية تجاه هؤلاء العاصين؟
بعث الله عز وجل إلى فرعون موسى وهارون وقال لهما: ﴿فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى﴾ .
وأرسل رسوله المصطفى الحبيب (صلى الله عليه وآله) خير خلق الله، إلى من؟ إلى قوم فيهم أبو جهل الذي هو بنص رسول الله (صلى الله عليه وآله): أعتى من فرعون.
كم هي رحمة الله تعالى للعاصين؟ لنا نحن معاشر العاصين. أيها الأحبة، ينبغي أن نطمع على أبواب شهر رجب. إن الله عز وجل يريد أن يشملنا برحمته، (الشهر شهري والعبد عبدي والرحمة رحمتي). كأنه تعالى يقول للمستكثرين جزيل الثواب – كما هو واضح من أدنى ملاحظة لروايات رجب – لماذا تتدخلون بيني وبين عبادي المريدين لي؟
إن الله سبحانه وتعالى يريد هذه الفرصة: 1- ليتوب العاصون: الذنوب تمنع من التوبة، فإذا وفق الإنسان لعمل صغير في شهر رجب وأسقطت عنه تراكمات هائلة من الذنوب، فربما أصبح مؤهلاً للتوفيق للتوبة، وإذا تاب فإن الله عز وجل يقبل توبته.
2- أيضاً، ليلحق المقصرون: رب إنسان يحمل هماً مبرحا في سويداء قلبه، إلهي أعرف أن قراءة القرآن مستحبة، والصلوات المستحبة ما أكثرها، الصوم المستحب كم هو عظيم، الأذكار، الأمور التي هي زاد الآخرة أعرفها، لكني يا إلهي مقصر، لم أدخر لآخرتي شيئاً، لم أحصل الزاد ليوم المعاد.
وهاهو شهر رجب الأصب الذي تصب الرحمة فيه يا إلهي صباً. إنها بداية الفرصة الإلهية الفريدة لكي يلحق المقصرون. تماماً كما يهتدي الفرد منا في المجال الدنيوي إلى مجال عمل ما، فيربح في اليوم مئات الآلاف مثلاً، فيقوض بذلك كسلاً وضياعاً طيلة سنوات. كذلك الأمر في باب الثواب مع إطلالة هذا الشهر المبارك. إننا أمام التدقيق في التعامل مع فرصة استثمار نوعي "ليلحق المقصرون".
3- وليسبق العاملون: والمراد بالعمل السابق هو العامل لآخرته، فمن عداه بطال. ثم إننا لا نحتاج عادة وفي الغالب إلى الحث على العمل لدنيانا، فنحن حريصون عليها. نرقع دنيانا بتمزيق ديننا، فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع.
نبذل كل الجهد لدنيانا. حتى الأمور التي من شأنها أن ترفعنا إلى أعلى عليين، من قبيل قضاء حوائج الناء أو من قبيل الرحمة للآخرين، أو من قبيل التدريس والكتابة، ندخل فيها عناصر الأنا والأنانية، فننسفها في اليم نسفاً، نقضي عليها، فما هي الحصيلة التي تبقى؟
التعرض لنفحات الله تعالى: يراد ب"العامل" من يعمل لآخرته. إذا كان هذا العامل جاداً إلا أن هناك عوائق تقف أمامه، فإن هذه الفرصة الإلهية الفريدة تتيح له أن يسبق. أيها الحبيب، الطبيب الرؤوف، ومن هو "طبيب دوار بطبه"، وبالمؤمنين رؤوف رحيم، أي المصطفى الحبيب (صلى الله عليه وآله) يقول لنا: «إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها ولا تعرضوا عنها»! كيف أنك عندما تجد ابنك يتضور من الألم وتريده أن يشرب الدواء وتتكلم معه بحنان، برفق، يا بني، إشرب هذا الدواء، لمصلحتك، أو تجده يتصبب عرقاً من شدة الحر وتقول له: تعرض لهذا الهواء البارد، لهذا النسيم العليل.
كذلك يريدنا صلى الله عليه وآله وسلم أن نتعرض لنفحات ربنا عز وجل في شهره، لكننا نصر على أننا لسنا بحاجة، ولا نريد.
وأحيانا يقيم المنهج الشيطاني الخاطئ سداً كبيراً بيننا وبين التعرض لنفحات الله عز وجل، فيقال مثلاً: هذه الروايات التي تحدثنا عن ثوات عجيب غريب لا يمكن التعاطي معها بإيجابية. إنها أمور غير معقولة، ثم نعرض عنها!
فسر لي أيها الحبيب، معنى الإعراض عن شهر رجب وشهر شعبان؟ يأتي شهر رجب ويمضي، ولا كأننا معنيون بالحديث عنه! كيف كان علماؤنا الأبرار من السلف الصالح وكيف هم علماؤنا الآن في تعاطيهم مع هذا الشهر ومع هذه الدورة الإلهية؟ إذا نظرت في سيرة العالم بالله- لأن هناك فرقاً كبيراً، فرق ما بين الأرض والسماء بين العالم بالإسلام والعالم بالله – تجد برنامجه في شهر رجب وشهر شعبان وشهر رمضان برنامجاً عباديا حافلا، لأن الصلوات والأدعية والأذكار، بالإضافة إلى الصوم في هذا الشهر، بل في هذا الموسم كله، ملء السمع والبصر. يقول الشيخ الطوسي عليه الرحمة: "شهر رجب شهر عظيم البركة، كانت الجاهلية تعظمه وجاء الإسلام بتعظيمه، وهو الشهر الأصم. سمي بذلك لأن العرب لم تكن تغير فيه ولا ترى الحرب وسفك الدماء، وكان لا يسمع فيه حركة السلاح ولا صهيل الخيل، ويسمى أيضاً الشهر الأصب، لأنه يصب الله فيه الرحمة على عباده".
الرحمة بدون صب من الله عز وجل هي هذه الرحمة الظيمة، فكيف إذا كانت الرحمة تصب صباً؟
عدد المشـاهدات 1284 تاريخ الإضافـة 05/02/2022 - 10:08 آخـر تحديـث 21/11/2024 - 05:08 رقم المحتـوى 19987