يسلب من كلّ مصدر غير الله صلاحيّة الانفراد بوضع مناهج مستقلّة لشؤون الحياة والإنسان.
فالله خالق الإنسان والكون والمصمّم لهذا النظام الكونيّ المنسجم، والعالم بإمكانات الإنسان واحتياجاته. وهو تعالى يعلم ما ينطوي عليه الكائن البشريّ من ذخائر دفينة وطاقات مكنوزة، وما ينطويعليه الكون من كنوز وإمكانات، ويعلم ميزان وأبعاد استثمار هذه الكنوز والإمكانات، ويعلم كيف تلتقي هذه جميعًا مع بعضها.
من هنا، فهو وحده القادر على وضع منهج لطريقة الحياة، ولعلاقات الإنسان، ومنهج حركته في إطار نظام التكوين. وهو وحده القادر على وضع قوانين الحياة وتعيين شكل النظام الاجتماعيّ. فاختصاص هذا الأمر بالله نتيجة طبيعيّة ومنطقيّة للخالقيّة والألوهيّة. فكلّ تدخّل من الآخرين – إذن – لتعيين المسيرة العمليّة للبشريّة هو تدخّل في حاكميّة الله وادّعاء للألوهيّة وباعث على الشرك؛ ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾[1]، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا مُبِينً﴾[2]. ويسلب حقّ الولاية على المجتمع وحياة الإنسان مِنْ غير الله. فولاية الإنسان على الإنسان، لو قامت على أساس حقّ مستقلّ وبدون مسؤوليّة، لاستلزمت الظلم والطغيان والعدوان. لأنّ الفرد الحاكم والجهاز الحاكم لا يستطيع أن يتخلّص من الانحراف والطغيان والإفراط إلّا إذا كانت زمام الأمور معطاة بيد هذا الفرد أو هذا الجهاز من قِبل سلطة عُليا ضمن إطار مسؤوليّات متناسبة. وهذه السلطة العُليا في المدرسة الدينيّة هي الله المحيط بكلّ شيء علمًا؛ ﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ﴾[3]، ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لاَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾[4].
هذه السلطة العُليا لا تنطلي عليها خدعة كما قد تنطلي على الجماهير، ولا يمكن اتّخاذها وسيلة للسيطرة والتجبّر كما تُتّخذ الأحزاب، ولا يمكن المساومة معها كما يمكن مع علّيّة القوم وزعمائهم.
وبنظرة أعمق: لو استلزم نظم الحياة انتهاء كلّ أجهزة الحياة الاجتماعيّة بنقطة واحدة، وتفرّد قوّة مسيطرة بمسك زمام جميع الأمور، لما كانت تلك القوّة المسيطرة سوى خالق الكون والإنسان.
فالحكم حقّ خاصّ بالله، ينفّذه من عيّنهم الله، أي أولئك الذي تتجسّد فيهم أكثر من غيرهم تلك المعايير والخصال المحدّدة في الأيديولوجيا الإلهيّة. وهؤلاء منفّذون وحفَظَة للقوانين الإلهيّة؛ ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[5]، ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾[6]، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ﴾[7]. ويعني اختصاص الملكيّة المطلقة الأصليّة لكلّ نِعَم الكون وذخائره بالله. فليس لأحدٍ أن يملك ويتصرّف مباشرة ومستقلًّا. كلُّ شيء أمانة بيد الإنسان لاستثماره والاستعانة به على طريق السموّ والتكامل. ليس للإنسان المنعّم أن يفسد ويتلف نِعَم هذا العالم التي هي ثمرة سعي آلاف الظواهر والعناصر في هذا العالم، أو أن يهمل هذه النِعَم أو يستثمرها في طريق غير طريق السموّ الإنسانيّ. ما في يد الإنسان، وإن كان ملكًا له، فهو عطاء إلهيّ. من هنا، ينبغي أن يتّجه استثمار هذا العطاء على الطريق الذي عيّنه الله، أي في طريقه الطبيعيّ الأساسيّ، في الطريق الذي خُلق من أجله في الحقيقة. واستثمار هذا العطاء الإلهيّ في غير هذا الطريق انحراف عن اتّجاهه الطبيعيّ، إنّه الفساد.
كما أنّ دور الإنسان إزاء هذه النعم الإلهيّة المتنوّعة هو استثمارها بشكل صحيح، وفتح مغاليق كنوزها، وقبل ذلك إحياؤها والبلوغ بها إلى درجة الكمال طبعًا؛ ﴿قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾[8]، ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعً﴾[9]، ﴿اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَ﴾[10]، ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾[11]. كما يعني أنّ أفراد البشر متساوون في حقّ استثمار نِعَم الحياة. فالإمكانات والفرص متكافئة أمام جميع البشر ليستثمر كلّ منهم هذه النِعَم قدَرَ حاجاته وضمن إطار سعيه وعمله. هذه الساحة الكونيّة لا توجد فيها منطقة خصوصيّة محصورة بفئة معيّنة. والجميع يستطيعون أن يستثمروا نعم الحياة المتنوّعة قدَر همّتهم وإرادتهم، دون تمايز بينهم في العنصر أو الموقع الجغرافيّ والتاريخيّ، بل وحتّى في الانتماء الأيديولوجيّ؛ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعً﴾، ﴿وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾. ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾. ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ﴾، ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ﴾، ﴿يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ﴾، ﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ﴾،﴿لِتَرْكَبُوهَ﴾، ﴿لِتَأْكُلُوا مِنْهُ﴾.
وكلّ هذه الآيات من مطلع سورة النحل تخاطب جميع البشر دون أن تتّجه في خطابها إلى فئة خاصّة أو طائفة خاصّة، وهي جاءت في سياق آياتٍ أخرى تخاطب جميع البشر أيضًا مثل: ﴿فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾. ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾. هذا جانب من المحتوى العميق الواسع للتوحيد. ومن خلال هذا الاستعراض السريع يتّضح بجلاء أنّ التوحيد ليس بالنظريّة الفلسفيّة الذهنيّة غير العمليّة المعزولة عن الحياة وعمّا يرتبط بحركة المجموعات البشريّة وبحركة الفرد ونشاطه. فالتوحيد لا يكتفي باستبدال معتقد بمعتقد آخر. بل إنّه:
من جهة، نظرة عامّة للكون والحياة تشتمل على مفهوم خاصّ للعالم وللإنسان ولمكانة الإنسان بين ظواهر العالم ومكانته في التاريخ، ولإمكاناته واحتياجاته ومتطلّباته الذاتيّة، ولاتّجاهه ومراحل سموّه وكماله.
ومن جهة أخرى، منهج اجتماعيّ شامل متناسب مع طبيعة الإنسان، ويستطيع الكائن البشريّ في إطاره أن يسمو على مدارج كماله بسهولة وسرعة. إنّه أطروحة خاصّة للمجتمع تتّضح فيها الخطوط العامّة والأساسيّة للكيان الاجتماعيّ.
من هنا، حين يرتفع نداء التوحيد في المجتمعات الجاهليّة؛ المجتمعات القائمة على أساس الجهل بحقيقة الإنسان، والمجتمعات الطاغوتيّة القائمة على أساس المعاداة للقيم الإنسانيّة الحقّة، فإنّه يحدث تغييرًا شاملًا ينير القلوب المظلمة ويحيي النفوس الهامدة، ويبعث هزّة في جسد المجتمع الراكد، وينظّم الشؤون المبعثرة المتناقضة لذلك المجتمع. يحدث التوحيد تغييرًا في المحتوى النفسيّ، والمؤسّسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وفي القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة. وبعبارة قصيرة، يهاجم التوحيد الوضع الجاهليّ القائم والسلطة التي تحمي هذا الوضع، والجوّ الذي يغذّي هذا الوضع ويمدّه بالحياة.
التوحيد – إذن – ليس فقط أُطروحة ترتبط بمسألة نظريّة محضة أو مسألة ذات إطار عمليّ محدود، بل إنّه أيضًا طريق جديد أمام الإنسان، يستهدف تقديم أسلوب آخر للعمل والحياة، وإن استند إلى تحليل ذهنيّ ونظريّ.
انطلاقًا من هذا الفهم لمحتوى التوحيد، نعتقد أنّ هذا الأصل يشكّل حجر البناء في صرح الدين، ومحتواه الأساس، والقاعدة التي تقوم عليها. لأنّ فهم التوحيد على أنّه نظرة لما وراء الطبيعة أو أنّه على أحسن الأحوال أُطروحة أخلاقيّة عرفانيّة، لا يتناسب إطلاقًا مع الأيديولوجيا الإسلاميّة الحيّة التي تنطوي على أُطروحة كاملة للحياة الاجتماعيّة.
كان هناك على مرّ التاريخ طبعًا أفراد، مع إيمانهم بالله وبالتوحيد، غفلوا أو تغافلوا عن المحتوى العينيّ والعمليّ – وخاصّة الاجتماعيّ – لهذه العقيدة. هؤلاء وطّنوا أنفسهم على المعيشة في كلّ زمان ومع كلّ الظروف بحيث لا تكاد تميّزهم عن الكافر بالتوحيد. أي إنّ هذه العقيدة لم تبعث فيهم شعور التعارض مع الوضع غير التوحيديّ القائم، ولم يثقل كاهلهم عبء الشرك المستفحل في مجتمعهم.
في مطلع الإسلام، كان هناك مجموعة من الحنفاء يعيشون في مكّة، مركز الوثنيّة وعاصمة أصنام العرب الكبرى. لكنّ وجودهم لم يكن له أدنى تأثير على الجوّ الفكريّ والاجتماعيّ، لأنّ مفهوم هؤلاء الحنفاء عن التوحيد لم يتعدَّ أذهانهم وقلوبهم وإطار حياتهم الخاصّة، ولم يكن له أدنى تواجد في تلك المتاهات الجاهليّة، ولا أقلّ تأثير على الحياة المؤسفة القائمة هناك. هؤلاء الذين يسمّون بالموحّدين كانوا يعيشون مع غيرهم على ساحة واحدة ويطوون مسيرة تلك الحياة بنفس طريقة غيرهم دون أن يزعجهم شيء. هذا الفهم الذهنيّ للتوحيد يتميّز بهذه الصفة من الخمول والانعزال عن الحياة وخاصّة الحياة الاجتماعيّة.
في مثل هذه الأجواء، أعلن الإسلام مفهوم التوحيد باعتباره عقيدة ملتزمة وتنظيمًا للحياة وأُطروحة جديدة للمجتمع. وبهذا الشكل، أعلن هويّته باعتبار دعوته انقلابيّة لكلّ مخاطبيه، المؤمنين منهم والكافرين. فكلّ مَن سمع نداء الإسلام عِلِم أنّه نظام اجتماعيّ واقتصاديّ وسياسيّ جديد لا يتلاءم إطلاقًا مع الأوضاع التي كانت قائمة في العالم آنذاك، بل إنّه يستهدف إزالة الوضع القائم وإبداله بوضع آخر.
بسبب هذه الأطروحة، اندفع المؤمنون صوب الدعوة باشتياق ولهفة وولع شديد وأسلموا لها، ولهذا السبب أيضًا هبّ المعارضون والكافرون ليقاوموا نداء التوحيد بوحشيّة وضراوة، وليصعّدوا عداءهم يومًا بعد يوم.
هذه الحقيقة التاريخيّة، بمقدورها أن تكون معيارًا لتقييم صحّة أو عدم صحّة ادّعاء التوحيد في كلّ زمان ومكان. ومن الصعب أن نصدّق وجود التوحيد في نفوس قوم يشبهون موحّدي مكّة قبل ظهور الإسلام.
فالتوحيد المهادن مع كلّ الأنداد والآلهة المزيّفة، الذي لا يعدو أن يكون فرضيّة ذهنيّة، ليس إلّا نسخة ممسوخة لتوحيد الأنبياء، ومن الطبيعيّ أن يخلو مثل هذا التوحيد من ديناميكيّة دعوة الأنبياء.
فمن خلال هذه الرؤية، نستطيع أن نفهم سبب انتشار نور الإسلام وتقدّمه في العصور المتقدّمة، وسبب تراجعه وتقهقره وضعفه في العصور المتأخّرة.
فإسلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يضع التوحيد أمام الناس باعتباره طريقًا ومسلكًا. وإسلام العصور التالية طرح التوحيد باعتباره نظريّة يدور حولها البحث والجدل في المجالس والمحافل. الكلام في الأوّل يدور حول تصوّر جديد للعالم ونظريّة جديدة لحركة الحياة، أمّا في الثاني، فيدور حول مسائل كلاميّة فرعيّة خالية من كلّ عطاء حيّ.
كان التوحيد يشكّل الهيكل العظميّ للنظام القائم، والمحور لكلّ العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، بينما في العصر التالي، فيتمثّل في لوحة فنيّة جميلة معلّقة في صالة؛ الهدف منها إكمال مظاهر الزينة فيها، فأيّ دور فعّال يمكن أن نتوقّعه من مثل هذه الظاهرة الكماليّة؟
ممّا تقدّم يتّضح أنّ التوحيد من منظار عمليّ أُطروحة للمجتمع ومنهج للحياة وقاعدة للنظام الذي اعتبره الإسلام متناسبًا مع طبيعة الإنسان ونموّه وسموّه. وهو من منظار نظريّ يشكّل القاعدة الفكريّة الفلسفيّة لذلك النظام. روح التوحيد رفض عبوديّة غير الله، الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله)
عدد المشـاهدات 1143 تاريخ الإضافـة 18/11/2021 - 12:15 آخـر تحديـث 21/11/2024 - 05:07 رقم المحتـوى 19491