الأحد 8/9/2024  
 جذور الاعتراض على وجود الموت

جذور الاعتراض على وجود الموت
أضف تقييـم
على ضوء التوضيح الّذي عرضناه لحقيقة الموت، يتّضحُ عدم استناد الاعتراضات المثارة بشأنه إلى أيّ أساس قويم، وهذه الاعتراضات ناشئة في الواقع من الجهل بحقيقة الإنسان وحقيقة عالم الدنيا، أو أنّها ناشئة من معرفة بتراء وناقصة لحقيقة الكون والحياة.
وحقيقٌ بالنزوع للحياة الخالدة أن يكون مؤلمًا للغاية، وتكون صورة الموت مرعبة للغاية في رؤية الإنسان ذي النظرة الواضحة البعيدة، إذا كان الموت نهاية للحياة حقًّا، وهذا هو سرُّ توهّم بعض الأشخاص أنّ الحياة عبثٌ لا جدوى منه، فهم يجدون في أنفسهم نزوعًا وميلًا للحياة الخالدة، لكنّهم يتوهّمون استحالة تحقّق ما يميلون إليه بقوّة، ولولا وجود هذا الميل فيهم لما اعتبروا الحياة عبثًا لا طائل منه. فهم كانوا سيرونها فرصة محدودة للتمتّع بالنعم والسعادة، وإن كانت ستنتهي إلى العدم المطلق، ولن يُفكّروا أبدًا بأنّ العدم أفضل من وجود مثل هذه الحياة المحدودة؛ لأنّهم يفترضون أنّ عيبها هو في محدوديّتها وقصر أمدها وانتهائها إلى العدم، أي أنّ عيوبها ناشئة - حسب هذا الفرض - من العدم اللاحق لها وقصر أمدها؟ فكيف يكون العدم أفضل من هذا المقدار المحدود من الوجود؟!
ولكنّنا عندما نجد أملًا ونزوعًا وطلبًا للخلود في نفوسنا، فهذا النزع والطلب والأمل فرع لتصوّر الخلود وإدراك جماله وجاذبيّته الّتي تبعثُ فينا الأمل الكبير بالخلود والفوز بالحياة الأبديّة. أجل إذا هجمت علينا مجموعة من الأفكار المادّية الّتي تقول لنا: إنّ هذه الآمال لا مصداق لها، فلا وجود للحياة الخالدة. فمن الطبيعي - حينئذٍ - أن نقع في الاضطراب والأذى والعذاب الخانق الّذي يدفعنا إلى تمنّي عدم المجيء إلى هذه الدنيا، لكي لا نواجه كلّ هذا العذاب والأذى.
من هنا، يتّضح أنّ تصوّر عبثية الوجود ناشئ عن عدم الانسجام بين غريزة ذاتية في الإنسان، وتلقينات اكتسابية، ولذلك لم يكن لمثل هذا التصوّر ليتولّد فينا لولا وجود تلك الغريزة الذاتية، وكذلك لولا هجوم تلك الأفكار المادّية الخاطئة.
لقد خُلق الإنسان بصورة غرست معها في فطرته هذه النزعة القوية للخلود، لكي تكون وسيلة لوصوله إلى الكمال اللائق به، والّذي يتوفّر فيه الاستعداد اللازم لبلوغه، والاستعدادات الكامنة في فطرة الإنسان وتركيبته أوسع من أن تستوعبها الحياة الدنيا بأيّامه المعدودات، ولذلك فلو كانت حياته محدودة بهذه الحياة الدنيوية فإنّ خلق تلك الاستعدادات فيه هو أمر عبثيّ حقًّا. والّذي لا يؤمنُ بالحياة الخالدة يجد حالة من عدم الانسجام بين تركيبته الوجودية من جهة، وأفكاره الإلحادية وآماله المحدودة من جهة أخرى، ولذلك فهو يقول بلسان أفكاره الإلحادية: إنّ العدم هو نهاية الوجود، وكلّ الطرق تنتهي إلى العدم، ولذلك فالحياة عبث لا طائل منه، لكنّه يقول بلسان استعداداته الفطرية - وهو اللسان البليغ ذو النظرة الجامعة -: لا محلّ للعدم. وأمامي طريق لا نهاية لها، ولو كانت حياتي محدودة لما خُلق فيّ الاستعداد للخلود والنزوع إليه.
من هنا اعتبر القرآن الكريم - وكما لاحظنا سابقًا - إنكار المعاد مرادفًا للاعتقاد بعبثية الخلق: ﴿أَفَحَسِبتُم أَنَّمَا خَلَقنَٰكُم عَبَثا وَأَنَّكُم إِلَينَا لَا تُرجَعُونَ﴾[1].
أجل، إنّ من يعتقد أنّ الدنيا مدرسة ودار للتكامل ويؤمن بالحياة الأخرى ونشأة الآخرة، لا يُمكن أن تصدر منه اعتراضات من قبيل: ما كان ينبغي أن نُخلق في هذه الدنيا، وإذا خُلقنا فلا ينبغي أن يُكتب علينا الموت، فمثل هذا الاعتراض لا يختلف في درجة ابتعاده عن المعايير العقلية، عن القول: إمّا أن لا يدخل الطفل المدرسة، وإذا دخلها فلا ينبغي أن يُغادرها!!
ولقد أجاد الشاعر العالم "بابا أفضل الكاشاني"[2] - وهو أُستاذ الخواجة نصير الدين الطوسي[3] أو أُستاذ أستاذه - في بيان حكمة الموت، حيث شبّه جسم الإنسان بالصدف الّذي يربي في داخله جوهر الروح الإنسانية الثمينة، ولا ينكسر هذا الصدف إلا بعد أن يتكامل وجود الجوهرة وتتأهّل بذلك لمغادرة محلّها الداني والعروج إلى مقامها السامي على رأس الإنسان. وهذا التشبيه يصدق على الموت، فبه ينتقل الإنسان من سجن عالم الطبيعة إلى رياض البهجة في الجنّة العالية الّتي عرضها عرض السموات والأرض، فيستقر في مقعد الصدق عند المليك المقتدر[4] والربّ العظيم الّذي يكتسب الإنسان بالتقرّب إليه كلّ كمال. وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَٰجِعُونَ﴾[5].
* الإسلام والحياة، مركز المعارف للتأليف والتحقيق
[1]  سورة المؤمنون، الآية 115.
[2]  الحكيم فاضل بابا أفضل الكاشاني فيلسوف، أُستاذ نصير الدين الطوسي، حيث أخذ منه الأصول العلمية والفلسفية، ويحتمل غير ذلك، لأنّ نصير الدين كان له من العمر عشر سنوات عندما توفي خاله سنة (607/1209). انظر: الفيلسوف نصير الدين الطوسي، ج27، ص61.
[3]  حجة الفرقة الناجية الفيلسوف المحقِّق أُستاذ البشر، وأعلم أهل البدو والحضر محمد بن محمد بن الحسن الطوسي الجهرودي سلطان العلماء المحققين، وأفضل الحكماء والمتكلمين ولد في 11 جمادى الأولى سنة 597هـ ، بطوس، وتوفي في يوم الغدير سنة 672هـ. الكنى والألقاب، ج3، ص250.
[4]  ﴿ إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَنَهَرٖ ٥٤ فِي مَقۡعَدِ صِدۡقٍ عِندَ مَلِيكٖ مُّقۡتَدِرِۢ ﴾ (سورة القمر، الآيتان 54 - 55).
[5]  سورة البقرة، الآية 156.
عدد المشـاهدات 92   تاريخ الإضافـة 22/07/2024 - 10:57   آخـر تحديـث 07/09/2024 - 18:40   رقم المحتـوى 25601
 إقرأ أيضاً