لماذا نصوم؟ إنّه سؤال قد تتنوّع فيه الإجابات:
1- الصحة: فقد يجيب من يعتني بأمور الطبّ والصحة الجسديّة بالحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله «صوموا تصحّوا»[1].
2- الشعور بالفقراء: وقد يجيب من يهتمّ بأمور المجتمع والفقراء بالحديث الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام : «إنّما فرض الله عزّ وجل الصيام؛ ليستوي به الغنيّ والفقير؛ وذلك أنّ الغنيّ لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير؛ لأنّ الغنيّ كلّما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله عزّ وجل أن يسوّي بين خلقه، وأن يذيق الغنيّ مسّ الجوع والألم؛ ليرقّ على الضعيف، فيرحم الجائع»[2].
3- الصبر: وقد يجيب من يولي الأولوية لأمور التربية النفسية بتفسير قوله تعالى: ﴿اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾[3] بكون المراد من الصبر في الآية هو الصوم[4]، فيؤكّد على ما ينتج من الصوم من تقوية إرادة الصبر في الإنسان على المستوى الفردي، كما أشار إلى ذلك الإمام الرضا عليه السلام :«... وليكون الصائم خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً لما أصابه من الجوع والعطش»[5]، بل قد يعمِّم ذلك إلى صبر المجتمع كما في قول الإمام الخميني ﴾ حينما علّق على الحصار الاقتصادي على الجمهورية الإسلامية: «نحن قوم اعتدنا أن نصوم في السنة شهراً، ونحن مستعدون أن نصوم كلّ السنة، ولا نخضع لإرادة أعداء الله».
4- إذهاب الكِبر والتذلٌّل لله: وقد يجيب من يلتفت إلى خُلُقيّات الإنسان بحديث أمير المؤمنين عليه السلام : «وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات، ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات، تسكيناً لأطرافهم، وتخشيعاً لأبصارهم، وتذليلاً لنفوسهم، وتخفيضاً لقلوبهم، وإذهاباً للخُيلاء عنهم. ولما في ذلك من تعفيرِ عتاق الوجوه بالتراب تواضعاً، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغراً، ولُحُوق البطون بالمتون من الصيام تذلُّلاً[26].
5- التحرّر من سيطرة الشهوات: وقد يجيب من يتعمّق بالأخلاق الباطنية التي تتعزّز من خلال سيطرة العقل على قوى الشهوة والغضب والوهم بحديث الإمام الرضا عليه السلام في بيان فلسفة الصوم «... مع ما فيه من الانكسار عن الشهوات»[7]، فالصوم يعرِّف الإنسان على قدرته على السيطرة على شهواته لينظمها بدل أن تجرفه إلى حيث تميل هي.
6- تثبيت الإخلاص: وقد يجيب من تجذبه العلاقة الخالصة مع الله تعالى بحديث السيدة الزهراء عليها السلام : «فرض ... الصيام تثبيتاً للإخلاص»[8]. فالصوم هو إمساك عن المفطرات بنيَّة، فلا يتحقّق بمجرّد الإمساك، بل لا بدّ أن يتقرّب باطنيّاً إلى الله تعالى، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله الوارد عنه «الصوم عبادة بين العبد وخالقه، لا يطّلع عليها غيره، وكذلك لا يُجازي عنها غيره»[9]، إضافة إلى أنَّ الإنسان يمكن له أن يتظاهر بالصوم، ويتناول الطعام والشراب، إلا أنّه حينما لا يفعل ذلك، فلأنّه يشعر بمراقبة الله تعالى له، وبالتالي فهو يعلِّم الإنسان، ويدرّبه على الإخلاص لله تعالى.
7- تذكّر الآخرة: وقد يجيب من يقدّم الآخرة في تفكيره ومسلكه بأنّ الصوم هو لتذكير الإنسان بالآخرة معتمداً على ما ورد من حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله : «واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه»[10].
الحكمة والعلّة إنّ العناوين المتقدّمة كلّها تصبّ في خانة الحكمة من الصوم، وقلت: الحكمة؛ لأنّ هناك فرقاً بين العلة والحكمة، فإنّ العلّة هي التي لأجلها شرَّع الله الصيام، بحيث يدور تشريع الصيام في رحاها، فإنْ وجدت يشرَّع الصيام، وإنْ لم توجد لا يحصل تشريع، وهذا ما لا يمكن للإنسان أن يتعرّف عليه، لا سيّما في أمور العبادات إلّا إذا ورد نصٌّ واضح في بيان العلّة الحقيقية من التشريع، فطالما لم يصل إلينا مثل هذا النص، فإنّنا لا بدّ لنا من الانتقال من الحديث عن العلّة إلى الحديث عمّا يقاربها من فلسفة للحكم من دون الالتزام بكون ذلك هو العلّة الحقيقية، وهذا ما يصطلح عليه بالحكمة.
بناءً عليه فإنّ ما تقدّم من أجوبة هو من نوع الحكمة من تشريع الصوم، والتي تتصدّرها الحكمة الواردة في القرآن الكريم، ألا وهي:
8- التقوى: يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾[11].
والتقوى التي يراد الصوم لأجل تحقيقها في الإنسان نسبها القرآن الكريم وأضافها إلى قلب الإنسان كما في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[12].
والقلب سمِّي قلباً؛ لأنّه يتقلَّب، وهذا ما يفهمنا معنى تقوى القلب؛ فإنّها تحصين القلب من التقلُّب، وحمايته منه، يقال في المثل المشهور: «درهم وقاية خير من قنطار علاج»، فالتقوى تعني أن يكون الإنسان محميّاً ومحصّناً ومنيعاً من التقلُّب السلبيّ الذي يكون بارتكاب المحرّمات، من هنا عرَّف الإمام الصادق عليه السلام التقوى بقوله الوارد عنه: «أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك»[13].
وهذه الخصلة الحميدة تحصل حينما تقوى إرادة الإنسان، ويسيطر عقله على شهواته وسائر قواه الباطنية.
كيف نصل إلى التقوى بالصوم؟ إنّ الوصول إلى التقوى والمنعة والإرادة التي يتغلّب فيها سلطان العقل على باقي قوى النفس يحتاج إلى أمور:
الأول: البناء المعرفي وهو يبدأ من تعزيز الاعتقاد بالله تعالى وصفاته، وأنّه حكيم، قد شرّع التشريعات باعتبارها قوانين العبور في طريق كمالنا، سواء فهمنا خلفيّتها أو لم نفهمها، فحالنا مع تلك التشريعات قريبة من حال الطفل الذي يوقظه والداه للذهاب إلى المدرسة، وهي مصلحة له في مستقبله، لكنّ هذا الطفل قد يشعر بالانزعاج من هذا الإلزام، وكذا حينما ينهيانه عن طعام يضرُّ بصحته لكون الطبيب قد منعه عنه لما يسبّبه من خطر في صحته، لكنّ الطفل قد ينزعج من هذا النهي.
ويستمر البناء المعرفي حينما يعزّز الإنسان اعتقاده بالحياة في الآخرة، وأنّها هي الحياة الحقيقية التي تستحقّ وصفها بالحياة، وأنّ الدنيا هي محطة عبور إلى تلك الحياة، يتخلّلها الكثير من الموهمات بكونها كمالات، وهي ليست كمالات.
ومن لطيف ما ورد حول هذا الأمر أنّ أحدهم تنفَّس الصعداء أمام أمير المؤمنين عليه السلام فقال له عليه السلام : «يا جابر، على ما تنفّسك؟ أعلى الدنيا؟ فقال جابر: نعم، فقال له: يا جابر، ملاذّ الدنيا سبع: المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح والمركوب والمشموم والمسموع ، فألذّ المأكولات العسل، وهو بصق من ذبابة، وأحلى المشروبات الماء، وكفى بإباحته وسباحته على وجه الأرض، وأعلى الملبوسات الديباج، وهو من لعاب دودة، وأعلى المنكوحات النساء، وهو مبال في مبال، ومثال لمثال، وإنما يراد أحسن ما في المرأة لأقبح ما فيها، وأعلى المركوبات الخيل، وهو قواتل، وأجلّ المشمومات المسك وهو دم من سرة دابة، وأجلّ المسموعات الغناء والترنّم وهو إثم، ما هذه صفته لم يتنفس عليه عاقل»[14].
الثاني: البناء العملي إنّ الكثير قد يصل إلى اعتقاد نظريّ بما سبق، إلا أنّ اعتقاده هذا لا يؤثِّر في سلوكه، بل قد يسلك سلوكاً منافياً لذلك الاعتقاد.
ويكون حاله كحال الذي أيقن أنّ الإنسان الميت لا يضرّ أصلاً، ولكن حينما يقال له: اقترب، ونمْ إلى جانبه، فإنّه يخاف من ذلك.
وهنا يُطرح سؤال مهمّ: كيف يتحوَّل الاعتقاد النظريّ إلى دافع حقيقيّ نحو السلوك الملائم؟
والجواب أنّه لا بدّ من إضافة شيء إلى المعرفة والاعتقاد، ألا وهو الدخول في تدريب عمليّ بكسر الحواجز النفسيّة الموهومة وهذا ما يحصل فعلاً في حالات دنيوية عديدة، فإنّنا نرى من يدرس الطبّ، قد يتفاعل سلباً حينما يرى جثّة في مكان التشريح، ولكن عند تكرار المشهد، والتدرُّب على الأمور يصل الطالب في النهاية إلى مستوى يشرِّح الجثة بالسكين بدون أيّة مبالاة منه.
إذاً التحوُّل إلى الوضع الموائم بين الاعتقاد والسلوك يحتاج إلى عمل إضافة إلى الاعتقاد.
وهذا ما انتهجه الدين لإيصال الإنسان إلى كماله، فهو لم يقتصر في توجيهاته على الدعوة إلى التفكّر والبحث الذي يفضي إلى الاعتقاد العقلي، بل دعت إلى أعمال وممارسات لها أثرها في تحوّل ذلك الاعتقاد إلى سلوك.
الصلاة: من هنا أمرت الشريعة بالصلاة التي فيها قيام وركوع وسجود تمثل حالة التذلّل أمام الله على المستوى العملي.
الحج: وكذا أمرت الشريعة بالحجّ الذي هو مخيَّم تدريبيّ لتربية النفس وتعويدها على التواضع والتذلّل لله تعالى، والتسليم له في كلّ ما يريده، وذلك من خلال مسار عمليّ يبتدئ بخلع لباس الدنيا الذي اعتاد عليه الإنسان، ولبس ثوب هو أشبه بالكفن بحيث لا يتميّز فيه غنيّ من فقير فالزينة ممنوعة، ولا رئيس من مرؤوس فالتيجان محرّمة، ولا عالم من جاهل فالعمائم منهيّ عنها.
بهذا اللباس يسير الإنسان طائفاً حول بيت من أحجار، ساعياً بين صخرتين كبيرتين، صاعداً إلى جبل، هابطاً إلى وادٍ، راجماً كتلة أحجار أخرى. كلّ ذلك ليضيف الإنسان إلى اعتقاده بوجوب التسليم تسليماً عملياً لأمر الله تعالى.
الصوم: وفي إطار نفس الهدف شرّع الله تعالى الصيام في مخيَّم زماني هو شهر رمضان ليكون مدرسة عمليّة في تحقيق التقوى والمنعة والحصانة من خلال اكتشاف الإنسان لإرادته التي يتعرّف عملياً في الصوم على أنّها قادرة على لجم شهواته، وهذا مما يساهم في تحقيق التقوى ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[15]».
الثالث: البناء الروحي وتتعزّز التقوى حينما يتفاعل المؤمن مع عبادة الصوم تفاعلاً قلبياً وروحياً ينتج منه عشقاً لهذه العبادة التي تقرِّب من المعشوق الحقيقي؛ ليكون بذلك أفضل الناس بتعبير الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله الذي ورد أنّه قال: «أفضل الناس من عشق العبادة، فعانقها، وأحبَّها بقلبه، وباشرها بجسده، وتفرّغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عسر أم على يسر»[16].
ولعلّ عشق العبادة التي منها الصيام يتبيَّن حينما نتعرف على معنى العشق في اللغة، فإنّ كلمة العشق مأخوذة من نبتةٍ تسمّى «عشقة» تلصق نفسها بشجرة تعيش عليها، ولا تتركها حتى تذبل الشجرة فيقال لها: أصابتها عشقة.
وهذا العشق للصيام يوصل الإنسان إلى القرب الإلهيّ الذي يبيّن الله تعالى مرتبته بقوله في الحديث القدسي الوارد: «الصوم لي وأنا أجزي به»[17]، فلم يكتف تعالى بالقول «الصوم لي» بل قال «وأنا أجزي به» فقدَّم ضمير المتكلم «أنا» على الفعل ولم يقل «وأجزي به»، ليبين المرتبة العليا لمن سار في طريق عشق الصيام عشقاً لكاتبه على الذين آمنوا ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾[18]. * كتاب شهر الله، سماحة الشيخ أكرم بركات. |