فلسائلٍ أن يسأل أنّه إذا كان الجهاد أحد أركان الشّريعة المقدّسة والأحكام الإلهيّة، فكيف أصبح مكروهاً في طبع الإنسان، مع أنّنا نعلم أنّ الأحكام الإلهيّة أمور فطريّة وتتوافق مع الفطرة؟! فالمفروض في الأمور التي تتوافق مع الفطرة أن تكون مقبولة ومطلوبة؟! في البداية يجب أن نعرف أن الأمور الفطريّة إنّما تنسجم وتتوافق مع طبع الإنسان فيما لو اقترنت بالمعرفة. فصحيح أن الإنسان يطلب النّفع ويتجنّب الضرر بفطرته، ولكنّ هذا يتحقّق في الموارد التي يعرف الإنسان فيها مصاديق النفع والضرر. أمّا لو اشتبه عليه الأمر في تشخيص المصداق، ولم يميّز بين الموارد النافعة والضّارّة، فمن الواضح في هذه الحالة أنّ فطرته وبسبب هذا الاشتباه سوف تكره الأمر النافع، والعكس صحيح أيضاً. وفي مورد الجهاد فإنّ الذين لا يرون فيه سوى الآلام والمصائب، والقتل والجرح، من الطبيعيّ أن يكون مكروهاً لديهم. أمّا بالنسبة إلى الأفراد الّذين ينظرون إلى أبعد من هذا المدى المحدود فإنّهم يعلمون أنّ شرف الإنسان وكرامته وحريّته تكمن في الجهاد، لذا هم يرحّبون به ويستقبلونه بفرحٍ وشوق. كما هو حال الّذين لا يعرفون آثار الأدوية المرّة والمنفّرة، فهم في أوّل الأمر يظهرون عدم رغبتهم فيه، إلّا أنّهم بعد أن يروا تأثيرها الإيجابيّ على سلامتهم وصحّتهم يتقبّلونها برحابة صدر. من هنا يشير الحقّ تعالى في هذه الآية الكريمة إلى مبدأ أساسٍ حاكم على القوانين التكوينيّة والتشريعيّة الإلهيّة فيقول تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾[1]. فلا عبرة بكرهكم وحبّكم لأنكم ربما تخطئون الواقع لجهلكم فلا تقدرون على الاهتداء بأنفسكم إلى حقيقة الأمر. وفي الختام يؤكّد الخالق جلّ وعلا بشكلٍ حاسم أنّه لا ينبغي للبشر أن يحكّموا أذواقهم ومعارفهم الخاصّة في الأمور المتعلّقة بمصيرهم، لأنّ علمهم محدود من كلّ جانب، وما علموه بالنسبة إلى ما يجهلونه كقطرةٍ في البحر، لذا يقول عزّ وجلّ: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[2]. فالناس لأنّهم لم يدركوا إلّا القليل من أسرار الخلقة ومن القوانين التكوينيّة الإلهيّة، تجدهم في بعض الأحيان يهملون أمراً ما ولا يعيرونه الاهتمام المطلوب، في حين أنّ أهميّته وفائدته قد تكون كبيرة. والكلام هو نفسه بالنسبة إلى القوانين التشريعيّة، فالإنسان لا يعلم بكثيرٍ من المصالح والمفاسد الموجودة فيه، لذا فقد يكره شيئاً في حين أنّ سعادته تكمن فيه، أو يفرح بشيءٍ ويطلبه في حين أنّه يستبطن شقاوته. وعليه فلا يحقّ للإنسان مع الالتفات إلى علمه المحدود والناقص أن يعترض على علم الحقّ اللامحدود، ولا على أحكامه الإلهية، بل عليه أن يعلم يقيناً أنّ الله تعالى، الرحمن والرحيم، عندما يشرّع تشريعاً ما كالجهاد مثلاً؛ فإنه لا يشرّعه إلّا لأنّه يرى فيه الخير والسعادة والنجاة. لذا على المؤمن أن ينظر إلى الأوامر والأحكام الإلهية على أنّها كالأدوية الشافية له من كل علّة، وعليه أن يطبّقها بمنتهى الرضا والقبول والتسليم. إذاً، إن التزم الإنسان بأحكام الحقّ فالنفع يعود إليه لا إلى الحقّ، كما أخبر تعالى في قوله: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون﴾[3]. فاللّه تبارك وتعالى وجود غير متناهٍ من جميع الوجوه وهو الكمال المطلق، وغير مفتقر لأيّ شيء، ولا ينقصه شيء حتّى يكمله الآخرون، بل كلّ ما عندهم منه، وليس لهم شيء من أنفسهم!! إذاً، فجميع منافع الجهاد ترجع إلى الشخص المجاهد نفسه، فهو بجهاده سيفوز بخير الدنيا والآخرة. والفائدة الكبيرة الأولى لجهاده هي تكفير الذنوب والعفو عنها وستره، كما أنّ الثواب سيكون من نصيبه كما يقول تعالى في نهاية هذه الآية المباركة: إنّه سيرفع درجة المجاهدين إلى ما يناسب أحسن أعمالهم. فإذا كان بعض أعمالهم تشوبه المشاكل فإنه تعالى سيعاملهم في كل واحد منها معاملة من أتى بأحسن الأعمال، فتحتسب صلاتهم أحسن الصلاة وإن اشتملت على بعض الشوائب وهكذا... |