لما حضر شهر رمضان، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): «سبحان الله! ماذا تستقبلون؟! وماذا يستقبلكم؟!»[1] (قالها ثلاث مرّات). صوم الجوارح والجوانح إنّ من الضرورة أن يراقب الإنسان نفسه جيّداً، وليقف متأمّلاً حينما يستقبل شهر رمضان، وليعلم أنّه ليس كباقي الشهور، ولياليه ليست كباقي الليالي، وأيّامه ليست كباقي الأيام، والعبد فيه ليس كحاله في بقيّة الشهور، فهو ضيف الله سبحانه، وينبغي على الضيف أن يراعي آداب الاستضافة، فلا يصدر منه ما لا يليق بشأن الضيف، ولا يجوز له هتك حرمة الضيافة، يقول الشيخ المفيد رحمه الله: «ومن سنن الصيام غضُّ الطرف عن محارم الله تعالى، وشُغْل اللسان بتلاوة القرآن، وتمجيد الله والثناء عليه، والصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واجتناب سماع اللهو وجميع المقال الذي لا يرضاه الله تعالى، وهجر المجالس التي يُصنع فيها ما يُسخط الله عزَّ وجلَّ، وترك الحركة في غير طاعة الله عزّ وجلّ، والإكثار من أفعال الخير التي يُرجى بها ثواب الله تعالى»[2]، وقد رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال لمحمّد بن مسلم: «يا محمد، إذا صُمْتَ، فَلْيَصُمْ سمعُك وبصرُك ولِسانُك ولحمُك ودمُك وجلدُك وشعرُك وبشرُك، ولا يكون يوم صومك كيوم فطرك»[3]. والسّر في تشريع الصوم قهر عدوّ الله، وكسر الشهوة والهوى لتتقوّى النفس على التقوى، وترتقي من حضيض وحظوظ النفس البهيمية إلى ذروة التشبّه بالملائكة الروحانيّة. فإذا لم يدرك المرء هذه الحقيقة للصوم، يتلهّى بالقشور وينسلخ عنه شهر رمضان كما دخل فيه. فالصوم؛ بمعنى الإمساك عن الطعام والشراب نهاراً، فهو وإن كان واجباً مطلوباً في الشريعة، إلّا أنّه ليس هو كلّ الصوم، فالصوم الصحيح الكامل إنّما يتمّ بصوم الجوارح والجوانح؛ أمّا صوم الجوارح فهو: أوّلاً: الإمساك عن المفطرات. ثانياً: كفّ البصر عن كلّ ما يحرم النظر إليه. ثالثاً: كفّ اللسان عن زلاّته. رابعاً: كفّ السمع عن آفاته.
وبعبارة جامعة: كفّ الحواسّ عن كلّ ما هو محرَّم عليها، وقد دلّ عليه ما رُوي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجابر بن عبد الله، إذ يقول: «يا جابر، هذا شهر رمضان، من صام نهاره، وقام ورداً من ليله، وعفّ بطنه وفرجه، وكفّ لسانه، خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر»[4]. وكذلك من دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) إذا دخل شهر رمضان: «وأَعِنَّا عَلَى صِيَامِه بِكَفِّ الْجَوَارِحِ عَنْ مَعَاصِيكَ، واسْتِعْمَالِهَا فِيه بِمَا يُرْضِيكَ، حَتَّى لَا نُصْغِيَ بِأَسْمَاعِنَا إِلَى لَغْوٍ، ولَا نُسْرِعَ بِأَبْصَارِنَا إِلَى لَهْوٍ، وحَتَّى لَا نَبْسُطَ أَيْدِيَنَا إِلَى مَحْظُورٍ، ولَا نَخْطُوَ بِأَقْدَامِنَا إِلَى مَحْجُورٍ»[5].
وأمّا صوم الجوانح فهو: أوّلاً: صوم النفس لتذليلها وكسر شهواتها، ويدلّ عليه ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «صوم النفس عن لذّات الدنيا أنفع الصيام»[6]. ثانياً: صوم القلب، وهو أفضل الصيام، ويكون بتنزيه القلب عن التفكير في الآثام وجميع أسباب الشرّ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «صيام القلب عن الفكر في الآثام، أفضل من صيام البطن عن الطعام»[7].
أصناف الصائمين بناءً على ما تقدّم من أنواع الصوم، يظهر لنا أنّه ثمّة درجات ومراتب للصيام، ويمكن تصنيف الصائمين إلى:
1. صوم العوامّ: وهم الذين لا يتعدّى صومهم الكفّ عن الطعام والشراب والفرج، على ما قرّره الفقهاء من واجباتٍ ومحرَّمات، وبذلك يسقط عنهم الواجب من دون ازدياد.
2. صوم الخواصّ: ويتحقّق بترك ما تقدّم، وإضافة صوم الجوارح كلّها، فيحفظ اللسان عن الغيبة، والعين عن النظر بالريبة، وكذلك سائر الأعضاء... وصوم هذا الصنف أكمل من صوم الصنف الأوّل؛ لأنّ يوم صومه ليس كيوم فطره، ويخرج من حدّ الجوع والعطش إلى حدّ الصوّامين، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ أبي (عليه السلام) قال: سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) امرأةً تسابّ جارية لها، وهي صائمة، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بطعام، فقال لها: كلي! فقالت: أنا صائمة يا رسول الله! فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببتِ جاريتكِ؟! إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب، وإنّما جعل الله ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحش من الفعل والقول يفطر الصائم. ما أقلّ الصوّام وأكثر الجوّاع!»[8].
3. صوم خواصّ الخواصّ: هؤلاء يضيفون إلى ما تقدّم صوم القلب وصيانته عن الفكر والوساوس، فيجعلونه مقصوراً على ذكر الله تعالى، ويكفّونه عمّا سواه جلّ وعلا، ويقتدون بالملائكة في الكفّ عن الشهوات بقدر الإمكان، وهؤلاء حقّاً يحصلون على ميراث الصوم، كما في حديث المعراج: «الصوم يورث الحكمة، والحكمة تورث المعرفة، والمعرفة تورث اليقين، فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح، بعسرٍ أم بيسر»[9].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الراونديّ، فضل الله بن عليّ، النوادر، تحقيق سعيد رضا عليّ عسكريّ، مؤسّسة دار الحديث الثقافيّة، إيران - قمّ، لا.ت، ط1، ص251. [2] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، المقنعة، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1410ه، ط2، ص310. [3] المصدر نفسه. [4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص87. [5] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، دفتر نشر الهادي، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص188، الدعاء 44. [6] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص302. [7] المصدر نفسه. [8] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج93، ص293. [9] المصدر نفسه، ج74، ص27. |