اليوم، عودٌ على بدء، عدوان تموز 2006 يعيد نفسه، بلبوسٍ أعتى وأشدّ شراً وصلافةً وحقداً، الاحتلال "يقتصّ" من الضاحية الجنوبية لبيروت، فيهدم الأبنية والحجر، ولا يتمكّن من فعل شيء بوجه إرادة وقوة شكيمة البشر. هي الضاحية الجنوبية لبيروت.. هنا ترتاح إلى اكتظاظ الناس و "عجقة" الطرقات، فهي مدعاة خير وحياة، هنا تنبض الحياة بمن وفدوا للسكن فيها على مدى عقود من قرى الجنوب والبقاع اللبنانيين وغيرها. "هنا الضاحية".. عبارة يعشقها أهلها وجمهور المقاومة العريض على امتداد لبنان والعالم العربي.. كما كنية "الضاحية الشموس" التي كان يطلقها تحبُباً رئيس مجلس النواب نبيه بري على هذه المنطقة التوأم اللصيقة ببيروت العاصمة. الكلّ يشتاق الضاحية اليوم.. بـ"عجقتها"ـ ودراجاتها النارية و "فاناتها" (ميكروباص) ومحلاتها المكتظة بالناس، ولا ننسى معالمها الثقافية الاجتماعية والدينية وغيرها. الضاحية الجنوبية المتنوّعة بسكانها وبلدياتها الناشطة، التي تتعانق فيها المساجد والكنائس، "خزّان" لكلّ لبنان، فيها اختُزنت روافد الكرامة والعزة، تأبى إلّا أن يخرج أهلها عن بِكرة أبيهم، شيباً وشباباً، أحراراً وحرائر لنصرة الحق وقضايا الأمة وعلى رأسها القضية المركزية للعرب والمسلمين "فلسطين". يكفي أنّ صوت سيد الشهداء الوهّار كان ينبلج من هذه الضاحية إلى شتى أصقاع الكون، ليرسم معادلات ويعلن انتصارات ويصدّقه العدو قبل الصديق. صمود على مدى عقود لم تثنِ الحرب في لبنان أحياء الضاحية من التوسّع، كما لم ينجح عدوان تموز 2006 في محوها، وجاءت التفجيرات الإرهابية عام 2014 لتزيد من قوتها وتمتّن عضد أهلها. واليوم، عودٌ على بدء، عدوان تموز 2006 يعيد نفسه، بلبوسٍ أعتى وأشدّ شراً وصلافةً وحقداً، الاحتلال "يقتصّ" من الضاحية الجنوبية لبيروت، فيهدم الأبنية والحجر، ولا يتمكّن من فعل شيء بوجه إرادة وقوة شكيمة البشر. لسان حال أهلها يقول "سنعود إلى أحياء الضاحية بنصر". "قهوة أبو عساف" شاهد منذ التسعينيات وفي حنايا الضاحية الملهمة بكلّ ما في الكلمة من معانٍ، تتوزع ما يصطلح على تسميته بـ "القهاوي" الشعبية، يجلس الشباب يتحدّثون ويتناقشون، يسمعون الأخبار ويحلّلونها، يتسقّطون أخبار غزة وفلسطين، ينصتون إلى كلام "السيد" باهتمام. يلعبون طاولة الزهر، "الداما"، يحتسون القهوة وربما يشربون "النارجيلة"، المهم أنهم من المناطق والمشارب اللبنانية كافة، كما في قهوة "أبو عساف" في وسط الضاحية. مقهى وطني يجمع اللبنانيين لكن طائرات الاحتلال التجسسية على مدى أعوام لم يرق لها المشهد الجامع الواحد، فلم تؤدِ غارة يوم الخميس الماضي على الشياح-الطيونة إلى تدمير مبنى سكني فحسب، بل ألحقت أضراراً أيضاً بالمناطق المحيطة به، وخاصة مقهى أبو عساف الشهير "الوطني" الذي يجمع الناس، هو "مركز الأصدقاء" الذي اجتذب بمكانه وتاريخه ورقيه زوّاراً من المناطق اللبنانية كافة. منتصف التسعينيات افتتح ابن بلدة "شحور" قضاء صور في محافظة الجنوب، حسين عساف المشهور بلقب "أبو عساف” "الكافيه" بمساعدة أشقاء له بين مستديرتي الطيونة وشاتيلا نهاية الأوتوستراد الحديث الذي سمّي لاحقاً "أوتوستراد الشهيد هادي نصر الله". الرجل الذي يملك ملَكة النكتة والروح المحبّبة، لا يقنط ولا ينصاع لإرهاب العدو، كمثل أهل الجنوب والضاحية.. ولبنان، ها هو يرفع الركام والأنقاض، بمساعدة روّاد ومتطوعين ليعود المقهى، كما الضاحية " أجمل مما كانوا"! |