ما يحدث في غزة هو أكبر اختبار للقيم الإنسانية التي يتغنى بها المجتمع الدولي. لم تعد الأزمات الإنسانية مجرد أحداث عابرة يمكن التغاضي عنها. هذه ليست مجرد "أزمة" أو "كارثة"، بل جريمة تُرتكب يومياً على مرأى من العالم. في غزة، حيث الحرب ليست حدثاً عابراً بل حالة مستمرة، يتحول العيش وسط الركام إلى صورة مصغرة لأكبر تناقضات القرن الحادي والعشرين. كل يوم في غزة هو تذكير صارخ بفشل العالم في تطبيق قيمه عن الحداثة والتقدم. في المدينة التي تحولت إلى أطلال، تصبح أسئلة الحياة أكثر إلحاحًا: كيف يمكن للعالم، الذي يتفاخر بمبادئ الإنسانية وحقوق الإنسان، أن يعجز عن إنقاذ بضعة أمتار مربعة من الكرامة الإنسانية؟ سعيد غانم، ربّ أسرة فلسطينية من غزة، لم يكن يوماً متطلّباً في حياته. حلمه كان بسيطًا: أن يعيش بسلام في منزله في بيت لاهيا، وأن يربّي أطفاله الستة بعيداً عن أصوات القذائف. لكن ، وبعد قُصف منزله، يعيش سعيد في غرفة بلا سقف، وسط أنقاض منزل لا يعرف من كان يملكه من قبل. بصوتٍ متعب يطرح سؤالًا يختزل مأساة شعبه: "هل هذا هو العقاب على أننا أردنا فقط أن نعيش؟" هذا السؤال هو صرخة في وجه كل من يدعي الحرص على الإنسانية، ويكشف عن عجز العالم عن إيقاف آلة الحرب التي تجتاح الأرض. الحرب على البشر على الرغم من أن الحرب "الإسرائيلية" في غزة تروّج لنفسها كحملة "لتدمير البنية التحتية لحركة حماس"، فإن ما يحدث على الأرض يروي قصة أخرى. الدمار الذي حل بـ 86% من القطاع، والذي سيحتاج رفع أنقاضه إلى عقد من الزمن، ليس مجرد "أضرار جانبية". بل هو جزء من استراتيجية تهدف إلى سحق الروح المعنوية للسكان المدنيين، وفرض خيارين قاسيين عليهم: إما النزوح أو الموت. غسان حنون، نازح آخر من مخيم الشاطئ، اختار البقاء وسط ركام منزله، رافضًا اللجوء إلى مراكز الإيواء التي هي الأخرى تُستهدف بالقصف، يرفض غسان أن يهرب أو يستسلم. بالنسبة له، أن يبقى في هذا الركام هو مقاومة في حد ذاتها، فهي تعني التمسك بالأمل في حياة أفضل، حتى وإن كان كل ما يملكه الآن هو بقايا منزله. بعدالعدوان "الإسرائيلي" على غزة أكثر من 160 ألف منزل دُمّر بالكامل، وأكثر من 83 ألف منزل آخر أصبح غير صالح للسكن. مع نقص الغذاء والماء، أصبح من المستحيل الحصول على الاحتياجات الأساسية. "حفرت بئراً في الرمل لأستخدمه بدل الحمّام"، يقول غسان، في وصف قسوة الحياة اليومية في غزة. غسان، مثل الآلاف غيره، يقاتل كل يوم معركة من أجل البقاء. الحرب في غزة ليست فقط حربًا على المباني، بل هي حرب على الإنسان ذاته. إنها معركة وجودية، معركة لا يمكن أن تُقاس بالدمار المادي فقط. هنا، في غزة، كل حجر مكسور، وكل منزل مدمر، وكل روح محطمة، هي جزء من هذا الصراع الطويل الذي لا يبدو له نهاية. الشتاء.. وحصار بلا نهاية وإذا كانت الحرب تضاعف من المعاناة، فإن فصل الشتاء يزيد على الأوجاع. في ظل الحصار المتواصل، تصبح الحياة في غزة أكثر قسوة. في غرفة بلا سقف، تعيش عائلة غانم، مثل غيرها من الأُسر، في مواجهة برد الشتاء القارس شادية، زوجة سعيد، تصف الظروف القاسية بحسرة: "ليس لدينا حتى سقف يحمينا"، تقول شادية بحزن. تتناثر خيوط الحياة على أرض غزاوية مغطاة بالركام. في هذه الغرفة التي لا تصلح حتى للحيوانات، تجد العائلة نفسها في مواجهة مع أسوأ الظروف الطبيعية، في حين تتساقط الأمطار الغزيرة على أجسادهم العارية من الحماية. تُعاني هذه العائلة من الجوع والبرد بشكل يومي، في حين تحاول أن تبقي أملها حياً في غدٍ قد لا يأتي. غزة في الشتاء، بلا كهرباء، بلا أغطية، وبلا حماية، تصبح مثالاً حيّاً على كيفية سحق الإنسان من خلال الحروب التي لا نهاية لها. وهذا ما يجعل الشتاء في غزة أكثر وحشية من أي فصل آخر، فهو ليس مجرد برد، بل هو ضرب من ضروب القسوة المستمرة التي لا تهدأ، وهنا أصبح التكافل بين أفراد المجتمع الفلسطيني هو السند الوحيد. رغم هذه الصعوبات، تصر غزة على المقاومة من أجل الحياة. هذا الوضع لا يُقاس بعدد الأيام بل بقدرة الإنسان على التمسك بحلمه وسط الخراب. العالم يتفرج.. لكن غزة لا تستسلم ما يحدث في غزة هو أكبر اختبار للقيم الإنسانية التي يتغنى بها المجتمع الدولي. لم تعد الأزمات الإنسانية مجرد أحداث عابرة يمكن التغاضي عنها. هذه ليست مجرد "أزمة" أو "كارثة"، بل جريمة تُرتكب يومياً على مرأى من العالم. ومع ذلك، وسط هذا الخراب، تظهر غزة بشجاعة نادرة. إنها المقاومة المستمرة التي لا تهدف إلى إعادة بناء المنازل فحسب، بل إعادة بناء الأمل. سعيد، غسان، وشادية، وغيرهم من سكان غزة، يقاومون كل يوم بطرقهم الخاصة. يقاومون بالنوم في ركام المنازل، وبالبحث عن لقمة لأطفالهم في زمن المجاعة، وبالأمل في غدٍ قد لا يأتي. لكن في عمق معاناتهم، يظل لديهم شيء واحد لا يستطيع الاحتلال تدميره: الكرامة. غزة لا تستسلم، ورغم كل ما مرّت به من محن، فإن صمودها يظل منارة لأمل الشعوب الأخرى. غزة لا تعرف الهزيمة ومع ذلك، فإن غزة اليوم تحتاج من العالم أكثر من مجرد كلمات تعاطف. فهي تحتاج إلى أفعال، تحتاج إلى تدخل حقيقي لوقف هذه الحرب المدمرة، وتحقيق العدالة لأبنائها الذين فقدوا كل شيء. يحتاج العالم إلى أن يدرك أن هذا الصراع ليس مجرد نزاع إقليمي، بل هو صراع من أجل الحقوق الإنسانية الأساسية، ومن أجل بقائهم على قيد الحياة. إن غزة هي الشاهدة على فشل العالم في حماية الإنسان، لكن أهل غزة، مثلهم مثل كل شعوب الأرض التي عانت من الظلم، يظلون ينبضون بالحياة. ففي كل زخة مطر، وفي كل لحظة ألم، ترفض غزة أن تذعن للموت، وتُصر على الحياة، مهما كانت التضحيات. حيث إن المعركة ليست فقط ضد القصف والموت، بل ضد تدمير الروح البشرية. مقاومة غزة ليست فقط في الدفاع عن الأرض، بل في الدفاع عن الإنسانية نفسها. |