للأدب في جنوب لبنان خصائصه وسماته المرتبطة بالمكانة التاريخية والسياسية والدينية لجبل عامل. ما هو هذا الأدب؟ ومن هم أبرز أعلامه؟ "اللي حامل عَ كْتافو زيتون وسنابل قلعةْ بحر صور وصخرةْ جبل عامل اللي حامل وْرَاق .. شُعَرا وعشّاق القمر مخَبِّيلُن لعراسُن خَواتمْ ما بيقدر يحمُل ظالمْ وشو ما إجا شعوب.. وشو ما راح شعوب كلُّن راح بيفلّوا.. وبيبقى الجنوبْ" هذه القصيدة التي كتبها الشاعر جوزيف حرب، تعدّ تلخيصاً جمالياً لحال المقاومة في جنوب لبنان، في معاركها الوجودية المستمرة، منذ ثمانينيات القرن الماضي، بعد الاجتياج الإسرائيلي للجنوب اللبناني وصولاً إلى بيروت، وتأسيس حزب الله، الذي ترافق مع ظهور مجموعة من الأدباء غيّروا مسار "أدب المقاومة" الذي سمَّاه ورفع رايته الأولى، الأديب الشهيد الفلسطيني غسان كنفاني بعد النصف الثاني من القرن العشرين. فقد بات لذاك الأدب خصائصه الجديدة وسماته المميزة التي دغمت الإبداع بالمكانة التاريخية والسياسية والدينية لجنوب لبنان، وجعلت من انتصارات الحزب، خصوصاً بعد عام 2000، رمزاً للعزة بعد أن أذل "إسرائيل" وأرغمها على الانسحاب من الجنوب اللبناني من دون تفاوض. استمرت هذه الموجة الجديدة من الأدب المقاوم في تثبيت أركانها، وإعلاء شأن الكلمة في تصوير همجية المعتدي، وتمجيد نضالات الإنسان ضده، وتأكيد الحقوق وعمق الانتماء إلى الجنوب اللبناني الذي لم يعد مجرد جغرافيا، وإنما استحال إلى فِكرة تُعيد اللغة تشكيل المفردات في خدمتها، وتشحذ مُخيِّلة الشعراء لتصويرها، والروائيين لتوطين سردياتهم إعلاءً لها. المعنى الكربلائي ولعل أبرز سمات شعر المقاومة أو النص الشعري للمقاومة هو ما اختصره الشاعر اللبناني الراحل، محمد علي شمس الدين، بالقول إنه: "هو الانتقال من شعر الإقامة في المكان إلى شعر الإقامة في اللغة، وبينهما مستويات مختلفة، بعضها يتصل بالمعنى الملحمي الكربلائي والإنشادي والذي ينطلق من فكرة الشهادة والشهيد، وأن الموت في سبيل الوطن والعقيدة هو الحياة"، ويستشهد بقصيدة له في وصف الشهيد حيث يمتزج المعنى الكربلائي للشهادة بالمعنى المسيحي للفداء: "يمشي على الموت مختالاً كأنّ به الألوهة سراً ليس يخفيه يمشي الهوينا وقتلاهُ تمجّده كأنما كل ما يرديهِ يحييهِ يعلو على الغيم أحياناً وآونة فيصبح أدنى من معانيه أعطيته كل ما أوتيت من نِعَم ندمتُ فألقاني على التيهِ" وهناك نمط آخر من الشعر الجنوبي المقاوم يتجلّى بمعنى الالتحام بالأرض وتمجيد العناصر، أي أنه شعر التحام دموي بالمكان، وهو ما تجسد في الشعر الفلسطيني من خلال أبرز رموزه: محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وأحمد دحبور وعز الدين المناصرة. أما من تمثُّلاته في شعر الجنوب اللبناني فما قاله الشاعر موسى شعيب ويدعو فيه إلى الإقامة في الجنوب، فهي وإن كانت إقامة عذاب، لكنها طيّبة كالمنيّة عند الذلّ: "هنا باقون كالأَزَلِ نشُدُّ جذورنا بجذورنا الأُوَلِ نعانق شوكَ هذي الأرض بالمُقَلِ ألم تُخلق سوى الأفواه للقُبَلِ؟ هنا باقون لن نَبَرْحْ وإنْ يُهدَمْ لنا بيتٌ، وإنْ نُقتَلْ، وإنْ نُذْبَحْ فهذي الريح موّال لنا يصدحْ وهذا الحقل أطفال لنا تمرحْ هنا باقون مثل الصخرِ لن نبرحْ" الموت من أجل القصيدة ثمة إذاً تقديس للبقاء، وللتجذُّر بالأرض، والدفاع عنها حتى الموت. أي أنه شعر مقاومة وصمود، وغالباً ما سعى الشعراء الجنوبيون لابتكار تداخلات مفاجئة في معنى البيت وانصهار الإنسان بتراب بلده، وإدغام سيرته ووجوده بوجود الجنوب، بحيث تصبح كل العناصر من حقول وصخور وريح.. امتداداً لنبض الشاعر، والبيوت المهدَّمة هي نزيف دمه، لكأنما تلك العناصر تولد من جديد بالشعر. وبناءً على ذلك، سنجد شاعراً جنوبياً هو حسن خليل عبد اللَّه، يقول في قصيدة "الدردارة" واصفاً طَرَفاً من طفولته التي قضاها قريباً من نبع الدردارة في مدينة الخيام: "أذكرُ من حديد الصيف فَخَّ حسن خليلَ وبأسَه المائيّ أنا هناكَ في العصفور كيف تكون في العصفور؟" هنا، يتحدث عبد الله عن زمانه وأحواله، لكنه الآن بات مقيماً في العصفور، فلو أصابَ صيّاد ما العصفور ذاك لأصاب حسن خليل بالذات. وفوق ذلك، فإنّ العناصر السحريّة البدائية للمكان، يرتّبها هذا الشاعر ترتيباً مدهشاً قريباً من السحريّة الرعوية، التي تنتشر من خلالها الأرواح في الزوايا وفي الأشجار والماشية، فيقول: "يعيش يعيش ديكُ الماءِ عاشَ الديكُ عاشَ الديكُ عاشَ الأصفرُ العصفورُ بين الثور والمجرى وصفراءِ النساءِ وصُفرة الدينور..." مثل هذا الشعر هو إقامة في المكان، وأيضاً المكان يقيم فيه، فيحتمي كل منهما بالآخر، ويدافع عنه. لذلك، بإمكاننا التشديد على ما قاله محمد علي شمس الدين "أنه حين يموت شهيد على تراب الوطن، فهو يموت من أجل القصيدة أيضاً". وكما أن هناك قصائد مكان وإقامة تناوب عليها الشعراء الجنوبيون ثمة انتقال إلى طبقات أخرى، ناجم عن مقاومة الغربة، لتصبح الإقامة في اللغة التي يصفها غاستون باشلار بأنها "بيت الشاعر، وهي أكثر من سكن، وأكثر تعقيداً من وطن"، وإنْ لم تأت على ذكر المقاومة أو حوادثها، ولم تتكلم عن الشهيد والشهادة، ولا عن الأرض أو التضحيات أو بَذل الدم، إلا أنها تتضمن في حناياها إحساساً مقاوماً، وحلماً مقاوماً، يتلمسه الإنسان من خلال القصيدة، وفي باطن معناها، لنصل بالنتيجة إلى أن كل شعر جميل هو شعر مقاوم بالضرورة. معركة وجود بالمثل تفعل الرواية المقاومة، فليس من الضروري أن يكون موضوعها الكفاح المسلح والنضال الشعبي، وتالياً أن تكون شخصياتها المحورية مقاتلة، تمارس ما يقتضيه من تدريب وحمل سلاح وتخطيط وتنفيذ عمليات حربية. بل أهم من ذلك، أن ترتبط تلك الرواية ببيئة المقاومة ومجتمعها. تتحرك في إطارها وتتفاعل مع قضاياها، وهو ما سينعكس على أبطالها، ويدخلُهم في مواجهة مع القهر والطغيان برموزه المختلفة، وعليها في سبيل ذلك أن تكون معبّرةً عن صدق التجربة والأصالة، هاجسُها تحريرُ الأرض والإنسان، بحيث لا تكون مجرد مرآة عاكسة بل جزءاً من معركة الوجود الصعبة في مواجهة الاحتلال. ولن تحقق ذلك ما لم تكن متحصنة بعقيدة إنسانية ثائرة، بحيث تصبح المقاومة جزءاً من التكوين الذاتي في الشخصية العربية. في لبنان، كان الأدب العاملي وما زال رائداً في هذا الاتجاه، ربما لأن جبل عامل كان وما زال ثغراً لبنانياً، قدره أن يواجه وأن يصمد، وأن يجعل من أرواح بنيه بيارق حرية في رحاب الفداء والشهادة. وبحسب كثير من النقاد، فإن الرّواية اللّبنانيّة المقاوِمة لم تشهد تلك القوَّة التي عرفتها الرّواية الفلسطينيّة المقاوِمة، وتكاد الأعمال الرّوائيّة والقصصيّة اللّبنانيّة، التي تحدثت عن المقاوَمة تكون قليلة جداً، ولعل أبرز تلك الروايات، هي رواية "درب الجنوب" لعوض شعبان الحائزة على جائزة اتحاد الكُتّاب اللبنانيين عن أدب المقاوَمة عام 1988، والتي تحكي قصة عائلة "علي حيدر" الجنوبية التي تعمل في الزراعة، وتقف في مواجهة البيك والسلطة والعدو، وتتجسد في تلك العائلة الثورة على الإقطاع عن طريق الابن حسين، إلى جانب الرغبة في الاندماج بعلية القوم ممثلةً بالابن يوسف الذي أحب ابنة البيك وفضَّلها عن بنات الفلاحين، بينما كانت تعصف بالجنوب أحداث خطيرة في مواجهة "إسرائيل"، انبثقت منها المقاومة لتوحد الصفوف بعقيدة صافية وروح جهادية لا ترضى بالذل، بمعنى أن شعبان استطاع أن يمسك ببداية ذاك الانبثاق، لكنه لم يستطع أن يستشرف مآلاته. ومن الروايات المهمة على صعيد انتمائها إلى سرد المقاومة هي رواية "حدثيني عن الخيام" للروائية فاتن المر التي توثق للجنوب اللبناني من مجزرة الخيام الأولى إلى لحظة كسر الأقفال العاتية التي كانت تغلق الأبواب على مجاهدي المقاومة في معتقل الخيام. أي من الموت العميم وحتى الحرية الغَرَّاء، وذلك وفق مسارين زمنين، الأول هو زمن العدو الإسرائيليّ المُعبَّأ بالخوف على أرض الجنوب، ومحاولته نقل قلقه من جراء ما ينتظره من مواجهات على أرض احتلها وعبث بمقدراتها، إلى الإنسان الجنوبي الذي يريد جعله محاصراً بالخوف مثله، مسكوناً بزمن موبوء يرسمه على قياس نظامه القمعي. أما المسار الثاني فهو مسار الجبهة المقاومة الجنوبية في مواجهة القتل والإرهاب الإسرائيلييْن. لذا، فإنه زمن الصّبر في ظل غياب أي تحرُّك عربي لمناصرة عاصمة عربية تتعرض لأبشع أنواع الإرهاب والإبادة. لكن، مع بداية العمليات الاستشهادية، صار هناك تحوّل زمنيّ في حركة الأحداث التي يحرص العدو على الإمساك بها. إذ بات زمن المقاومة زمناً حاضراً وفاعلاً بوجه الزمن الإسرائيليّ، وبدأ زمن العدو يتلقى الضربات التي ستؤسس لزمن آخر، تنتصر فيه إيديولوجيّة المقاومة على إيديولوجية القتل والإرهاب، ليُصار إلى تحويل هذا الزمن زمناً متعالياً على زمن العدو. وتترك عملية المقاومة مناخاً تعبويّاً في صفوف الشبان والناس، ما أدّى إلى تصاعد الأعمال المقاومة بوجه العدو، ووضعه أمام خيارات لم يكن يفكر فيها من قبل. ثلاثة ينابيع ومن هذه الأمثلة الروائية إلى مجموعات قصصية كـ"النوافذ المغلقة وعيون الأحباب" و"ليلة القبض على سر الأدهم" لأحمد سويد، و"القبضة والأرض" و"العيون الغاربة" لعلي حجازي، و"ذات عصر" لعبد المجيد زراقط وغيرها، نتلمس مجموعة من الملامح العامة يوجزها الباحث يوسف الصميلي بما يلي: "الفلاح هو المقاوم الأول على أرض الجنوب، وتتمحور حوله معظم السرديات سواء أكان مزارعاً في الحقل أو مربياً في البيت أو محدثاً في جلسات القيلولة أو نازحاً مؤقتاً إلى الجوار، بينما يتجلى الاتجاه المقاوم من 3 ينابيع على صلة وثيقة بالمواطنين، هي الينبوع الروحي متجسداً بالمسجد كمكان جامع وكحافز على الفعل وكمروض للنفوس للصبر على المكاره، والينبوع التاريخي من خلال التاريخ القريب الذي ما زال راسخاً في أذهان الناس عبر حكايات تحكى عن الأتراك والفرنسيين، ومن خلال التاريخ البعيد الممتزج بالبعد الديني والذي يرقى صعوداً إلى معارك الإسلام الأولى، وهناك الينبوع الواقعي بصوره الثلاث عن الوطن والمواطن والعدو". ومن تلك الملامح أيضاً تبرز شخصية المعلم في تنمية الوعي السياسي والاجتماعي، وقدرته على تحمل تبعة هذا الدور، بما في ذلك السجن، فضلاً عن أن فرزاً مجتمعياً واضحاً تؤكده معظم السرديات، وهو أن المواطنين في خندق، والسلطة وممثليها وعيونها في خندق آخر، ولا يختلف الأمر في حالات الحرب. ذلك أن الذين كانوا مع السلطة، أصبحوا إلى جانب العدو. أما الفلاح الذي كان يقاوم الجفاف معتمداً على نفسه في ظل إهمال السلطة، هو نفسه الذي يقاوم العدو في الظروف نفسها، لنتبين في النهاية أن المقاومة سلسلة متصلة الحلقات داخل الأسرة الواحدة، من الجد فالأب فالابن، يشتركون في التحدي، وضرورة تحقيق الهدف، متخطين كل أنواع العوائق والصعوبات، وفي هذا تجديد مستمر للثقة بالنفس، وإثبات بأن "الفن والثقافة سلاحان، إذا ما سارا على النهج الهادف رفعا مفاهيم أمة بكاملها"، إذ كان الهمّ الوطني والهمّ الاجتماعي وأيضاً الهمّ التربوي، جزءاً من الاتجاه السردي المقاوم. |