لماذا تسير فرنسا وسواها نحو هيمنة اليمين المتطرّف؟ ولماذا تتصاعد أشكال اللامساواة في الغرب؟ ما الذي يجعل فرنسا تسير بوتيرة سريعة نحو هيمنة اليمين المتطرف داخل كل النطاقات، وآخرها المصادقة على قانون يحاصر المهاجرين الذين يشكّلون قوة العمل الرئيسة التي ساهمت في بناء فرنسا غداة الحرب العالمية الثانية؟ وما الذي يجعل الولايات المتحدة، القوة الرأسمالية الأعظم في العالم، تتجه نحو مزيد من تصاعد أشكال اللامساواة التي تدفع بالكثيرين إلى الذهاب نحو اليمين الشعبوي الذي صار دونالد ترامب أحد رموزه؟ هذه التساؤلات لا تقتصر على فرنسا والولايات المتحدة فحسب، بل تنسحب على ما يسمّى بــ "الغرب"، ويشمل أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. وهي تساؤلات باتت تشمل أيضاً جزءاً من مجتمعات ما يعرف بــ "عالم الجنوب" الذي صارت بعض دوله تتبنّى السياسات الليبرالية. في كتابه الأخير الصادر عن دار "غاليمار"، يعلن عالم الاجتماع الفرنسي، إيمانويل تود، بوضوح ''هزيمة الغرب"، وهو العنوان الذي يحمله الكتاب نفسه. أما الهزيمة التي يعلن عنها تود فليست هزيمة حربية أو عسكرية، بل بمعنى تهاوي "سردية الغرب" التي تشكّلت في إثر الحرب العالمية الثانية في إطار مقولة الدولة الوطنية كإطار أيديولوجي وثقافي، يهيكل الوجود التاريخي للمجتمعات الغربية التي أنتجتها الحداثة. وينطلق تود في رأيه هذا من الحدث الذي هزّ أوروبا، وهو العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث بيّنت هذه الحرب بالدرجة الأولى تهاوي الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث لا علاقة لهمها الآن بالتاريخ الذي كانا عليه كدول "وطنية" و"قوية" و"مجدّدة". حتى أن تود ينهي كتابه عن الحرب المدمّرة التي تشنها "إسرائيل" على غزة، معتبراً أن "هزيمة واشنطن" وتراجع الولايات المتحدة كقوة مؤثّرة في السياق العالمي، سيسهّل خروج "إسرائيل" من فخ غزة ويتم هذا بدفع من روسيا التي صارت تشكّل منذ الحرب الأوكرانية "الشبح" الذي يجتاح ويخيف أوروبا والغرب. ولا يحلّل تود هذه الهزيمة من الحدث الأوكراني في راهنيته، بل ينطلق منه كدال على تقلّبات عرفها الغرب لعقود على المستويات الاقتصادية والقيمية والجيوستراتيجية، وهي تقلّبات تتعلّق في العمق بتحوّلات النظام الرأسمالي وطرق اشتغاله والكيفية التي يعيد بها في كل مرة تعريف ذاته. |