في القرآن الكريم، حديث متنوّع عن أساس المسؤولية التي يحمّلها الله لخلقه، وعن مسؤولية الإنسان أمام ربّه، وعن الحجّة التي يقيمها الله على العباد ليكونوا مسؤولين أمامه، وعن الحجّة التي بيد العباد أمام ربّهم في حجم المسؤولية، وفي حركة الناس مع بعضهم البعض عندما يختلفون في أفكارهم ومواقفهم، فيثبت شخص شيئاً، وينفي شخص شيئاً آخر. عنوانا البرهان والحجّة فما هو الأساس الذي ينبغي أن يحكم به الناس في عملية الصراع الفكري؟ إنّ القرآن الكريم يلخّص لنا ذلك كلّه، وخلاصة الفكرة قبل أن ندخل إلى تفاصيلها في آيات الله سبحانه وتعالى، هي أنّ هناك عنوانين في القرآن الكريم يلتقيان في المعنى، وإن كانا يختلفان في إيحائه، وهما البرهان والحجّة.. فالبرهان هو الدليل الذي يقيمه الإنسان كأساس لفكرته في مواجهة الآخر، أو كأساس لنقض ما يدّعيه الآخر، فلابدّ لك عندما تثبت دعوى في أيّ جانب من جوانب الفكر، أن تملك الدليل، ودليلك هو حجّتك على السلب هنا والإيجاب هناك. أمّا كلمة الحجّة، فهي التي تعطي بحسب مدلولها ما يُحتجّ به على الشيء وعلى الآخر، ومن الطبيعي أن يكون الدليل أو الحجّة التي يمكن أن تفتح للإنسان نوافذ الفكرة من أقرب وأقصى موقع، ناجمة عن علاقتنا مع الله سبحانه وتعالى. الحجّة البالغة إنّ الله سبحانه يتحدّث في القرآن الكريم بأنّه يملك الحجّة البالغة على خلقه (فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) (الأنعام/ 149)، فهو الذي يملك الحجّة على خلقه، وليس لخلقه أية حجّة فيما يفعلون أو يتركون، وفيما يكفرون أو يضلّون، بحيث إذا وقف الناس أمام الله غداً، فلا يملك أحد أن يحتجّ على الله بشيء، بل الله هو الذي يحتجّ عليهم، لأنّه هو الذي يملك الأساس في كلّ ما أراد لهم أن يعتقدوه أو يمارسوه. وقد استوحى الإمام عليّ (ع) ذلك في «دعاء كميل» فيما رواه كميل عنه: «فلك الحجّة عليَّ في جميع ذلك، ولا حجّة لي فيما جرى عليَّ قضاؤك، وألزمني فيه حكمك وبلاؤك». فالإنسان سوف يقف غداً بين يدي الله سبحانه وتعالى، فيجد أنّ الحجّة من الله عليه بالغة محكمة. وهنا، لابدّ أن نفهم كيف تكون الحجّة لله بالغة، ففي حديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) يقول: «إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال نعم، قال: أفلا عملت بما علمت، وإن قال كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلَّمت حتى تعمل، فيخصمه». وتلك هي الحجّة البالغة، وذلك أنّ الإنسان قد يواجه الموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى وهو كافر أو وهو عاصٍ، فإذا واجهه وهو كافر بوجوده، كافر بتوحيده، فإنّ الله يكون قد أقام عليه الحجّة من خلال فطرته التي توحي إليه بالإيمان بالله، وبعقله الذي يثبت له الدليل على توحيده. ولذلك، فإنّ الله يملك الحجّة على الإنسان في مسألة الإيمان والكفر، لأنّ الكفر لا يملك أيّ دليل لأنّه نفي، فأن تكفر بالله، يعني أن تنفي وجوده، وأن تكفر بالله، يعني أن تنفي توحيده، وهل يملك إنسان أن ينفي وجود الله وهو جالس في دائرة محدودة؟ فهل اطّلع الإنسان على الكون كلّه في غيبه وفي محسوساته لينكر وجود الله؟ بل إنّ الإنسان لا يملك أساس الشكّ، لأنّ الشكّ إنّما يكون مقبولاً إذا لم يكن لك دليل على الإثبات، ومادام الدليل على الله سبحانه وتعالى في كلّ ما خلق، وفي كلِّ مَن خلق، بحيث إنّ الإنسان إذا نظر إلى نفسه وإلى تركيبة جسمه وتركيبة عقله، وعرف عظمة هذا الخلق، فإنّه يرى أنّ الله سبحانه وتعالى يشرق في وجوده، ليشعر الإنسان بأنّ الله معه في كلّ نَفس يتنفّسه، وفي كلّ عضو من أعضائه، وجهاز من أجهزته.. فالإنسان في مسالة الإيمان والكفر لا يملك الحجّة على الكفر، بل الحجّة هي للإيمان ولكلّ ما ينفتح فيه الإنسان في معقولاته وفي محسوساته.
|