مرّت القرون وعملاء الاستعمار، وأجهزة دوائر التربية، ودوائر السياسة تنفث السموم في أفكار الناس وأخلاقهم حتّى أفسدوها، والناس في ريب من أمرنا بسبب هذه السموم ومجامعنا وهيئاتنا الدينيّة هي بدورها تحتاج إلى إصلاح، ولا بدّ كذلك من اجتثاث جذور الأفكار السقيمة الوافدة من الخارج، ومحاربة كلّ سوء وفساد وانحراف في المجتمع.
نحن نُلاحظ وجود الناس متأثرين بتلك السموم بين صفوفنا فنرى البعض منهم يسرّ إلى الآخر: إنّ هذه الأعمال لم تُخلق لنا ولم نُخلق لها. ما نحن وذاك؟ نحن ندعو الله ونُبيّن المسائل. هذا المنطق نتيجة ما يُلقيه الأجانب في روع الناس من مئات السنين، وهذا هو الّذي يجعل القلوب في النجف وقمّ وخراسان خائرةً هزيلة واهنة غير راشدة وحجّتها في ذلك: إنّ ذلك ليس من شأننا. هذه أفكارٌ خاطئة، فهل توجد عند الحكّام الفعليّين من القابليّات والمواهب أكثر ممّا عندنا؟ أيّهم كان جديراً بزعامة الناس وقيادتهم؟ ألم يكن بعضهم أميّاً؟ أين تثقّف حاكم الحجاز؟ ألم يكن رضا خان([1]) من جهّال الناس؟ وها هو التاريخ يُحدّثنا عن جهّال حكموا الناس بغير جدارةٍ ولا لياقة، هارون الرشيد، أيّة ثقافة حازها؟ وكذلك من قبله ومن بعده!
وعلينا أن نستفيد من ذوي الاختصاص العلميّ والفنيّ فيما يتعلّق بالأعمال الإداريّة والإحصائيّة والتنظيميّة، وأمّا ما يتعلّق بالإدارة العليا للدولة، وبشؤون بسط العدالة وتوفير الأمن وإقرار الروابط الاجتماعيّة العادلة، والقضاء والحكم بين الناس بالعدل، فذلك ما يختصّ به الفقيه، ويُفني فيه كلّ أيّام حياته، وهو يملك ما يحفظ للناس حريّتهم واستقلالهم وتقدّمهم، ضمن سياسة مستقيمة لا نفوذ فيها لأجنبيّ، ولا انحراف فيها إلى يمين أو يسار.
أُخرجوا من عزلتكم، وأكملوا برامجكم الدراسيّة والإرشاديّة واركبوا الصعاب في سبيل ذلك. وخطّطوا للحكومة الإسلاميّة، وتقدّموا في خططكم، وكونوا في ذلك يداً واحدة مع كلّ من يُطالب بالحريّة والاستقلال، فإنّكم ستصلون إلى أهدافكم يقيناً. اعتمدوا على أنفسكم. وأنتم ستزيد خبرتكم وتجاربكم في طريق نضالكم الّذي يُرعب الاستعمار ويُرهبه. وأنا على يقينٍ أنّكم قادرون على إدارة دفّة الحكم عند تقويض أسس الجور والظلم والعدوان. وكلّ ما تحتاجون إليه من قوانين ونظم فهو موجودٌ في إسلامنا، سواء في ذلك ما يتّصل بإدارة الدولة، والضرائب والحقوق، والعقوبات وغيرها. لا حاجة بكم إلى تشريعٍ جديد، عليكم أن تُنفّذوا فقط ما شُرّع لكم. وهذا يوفّر عليكم الكثير من الوقت والجهد، ويُغنيكم عن استعارة قوانين من شرق أو غرب. كلّ شيء - ولله الحمد - جاهز للاستعمال، ويبقى تنظيم الوزارات واختصاصاتها وأعمالها ووظائفها، وذلك يتمّ على أيدي الاختصاصيّين بأسرع وقت.
ومن حسن الحظّ أنّ الشعوب الإسلاميّة معكم والجماهير تتّبعكم وتقتفي آثاركم وتقتدي بكم، وسيشتدّ ساعدكم، وكلّما نفتقده هو "عصا موسى" وسيف عليّ بن أبي طالب عليهما السلام وعزيمتهما الجبّارة، وإذا عزمنا على إقامة حكم إسلاميّ سنحصل على عصا موسى وسيف عليّ بن أبي طالب عليهما السلام أيضاً.
نعم! يوجد فينا أفراد مهملون مغمورون لا يكادون يُحسنون شيئاً، ولا يكتبون ورقة عِلم ولا يفتحون أفواههم بكلمةٍ فيها هداية، ولا يكادون يفهمون حديثاً من شؤون الحياة، وقد أذعنوا بأن لا قابليّة فيهم نتيجة لما بثّه العملاء فينا من أمثال هذه العبارات: ما أنت وذاك؟ عليك بدرسك، إذهب إلى مدرستك، وها نحن الآن نعجز عن إقناع البعض منّا بالخطأ الّذي وقعوا فيه من الاعتزال والإهمال وعدم الاهتمام بشؤون المسلمين.
بيّنوا للناس برامج الإسلام في حكومته، وضّحوا ذلك للعالَم، فلعلّ حكّام وروؤساء المسلمين أن يقتنعوا بصحّة هذا ويتّبعوه، ونحن لا نُنافسهم على الكراسي، بل نترك من كان منهم تابعاً وأميناً على التنفيذ في مكانه.
علينا أن نُشكّل الحكومة الأمينة الّتي يركن الناس إليها ويثقون بها، ويُسلّموها أمورهم كلّها. نحن نُريد من ينهض بالأمر بأمانة وإخلاص ليعيش الناس في ظلّ حكمه آمنين. والله يعلم أنّ أهليّتكم وجدارتكم لتولّي أمور الناس لا تقلّ عن الآخرين، سوى أنّنا لا نملك الإقدام على القتل بغير حقّ، وعلى الجور والخسف، لأنّ ذلك ليس من اختصاصنا.
أحد رجال الدولة([2]) في إيران يُخاطبني في السجن، وكان معي السيّد القمّي([3]) - سلّمه الله - ولا يزال مضطّهداً: "السياسة خبثٌ وكذب ونفاق، اتركوا ذلك لنا". هذا صحيحٌ، ولئن كانت السياسة لا تعني إلّا هذه الأمور فهي بهذا المعنى من شؤونهم، ولكنّ السياسة في الإسلام والسياسة لدى الأئمّة عليهم السلام الّذين هم ساسة العباد - كما ورد في الزيارة([4]) - لا تعني ما قاله لي ذلك الرجل. ذلك الرجل أراد خداعنا والتمويه علينا. وفي اليوم التّالي ظهرت الصحف لتُعلن: "أنّه تمّ الاتفاق والتفاهم على أن لا يتدخّل رجال الدِّين في السياسة بعد اليوم"([5]). وبعد الإفراج عنّي ارتقيت المنبر وكذّبت تلك الأنباء الصحفيّة الّتي نُشرت في حينه، وقُلت: "إنّ الرجل ليكذب، وإنّ كلّ من يقول بذلك من رجالنا يجب نفيه من البلاد"([6]) وهؤلاء - كما ترون - قد ألقوا في روعكم أنّ السياسة خبثٌ ومكر ودهاء، ليصرفوكم عنها، وليعبثوا بأمور الأمّة ما شاءت لهم أنفسهم، ولينّفذوا ما يُريدون بوحيٍ من سادتهم الإنكليز والأمريكان الّذين تزايد نفوذهم في بلادنا في الآونة الأخيرة.
وإذ كنت في همدان تقدّم إليّ رجلٌ فاضل وبيده خارطة وضعت عليها إشارات حمراء تُشير إلى كنوز المعادن المذخورة تحت أرض بلادنا، ولقد توصّل إلى معرفة ذلك أولئك الخبراء الأجانب فعرفوا أين يوجد الذهب، وأين يوجد النحاس، وأين يوجد النفط، وجاسوا خلالنا وأيقنوا أنّ العقبة الوحيدة الّتي تحول دون تنفيذ أطماعهم، هي الروحانيّة القويّة وتعاليم الدِّين الحنيف.
أولئك الأعداء عرفوا الطاقات الكامنة في الإسلام، وحسبوا لها ألف حساب، وعلّمهم التأريخ أنّ الإسلام قد انفتحت له أبواب أوروبا ليحكمها في حقبة طويلة من الزمن، إذن فالإسلام الواقعيّ لا يتلاءم وما يُريدون. ولمسوا من جانب آخر أنّ العلماء الحقيقيّين لا يُمكن أن يُسايروهم أو يواكبوهم، لهذا كلّه، فقد انصبّت محاولاتهم من أوّل يوم على إزالة هذا العائق عن طريقهم، وعلى التقليل من أهميّة الإسلام والروحانيّة، بشتّى وسائل الإعلام. وهكذا ترون كثيراً من الناس ينظرون إلى الإسلام على أنّه بضع مسائل شرعيّة، وترون بعضاً آخر لا يحسن الظن بالعلماء.
وقد سعى عملاء الاستعمار إلى اتهام العلماء وتشويه سمعتهم حتّى لقد أذاع بعضهم بكلّ وقاحة وبلا حياء: "أنّ ستمائة من علماء النجف وإيران كانوا يعملون لحساب الإنكليز. الشيخ الأنصاريّ كان يتقاضى الرواتب منهم لمدّة شهرين". ويستند هذا العميل في إذاعة ذلك إلى وثائق من وزارة الخارجيّة البريطانيّة في الهند. ما أشدّ لهفة الاستعمار إلى اختلاق مثل هذه التُّهم!
ومن جهة أخرى فقد بذلوا قصارى جهدهم في التقليل من شأن الإسلام، وتحديد وظائفه ووظائف القائمين عليه من الفقهاء والعلماء، وحصر تلك الوظائف والواجبات في حدود بيان المسائل، وفي حدود المواعظ والإرشادات وقد صدّق بعض السذّج ذلك فتاهوا من حيث لا يشعرون. أقول لكم: إنّ هذه الاتّهامات والجهود المبذولة في تشويه السمعة تستهدف استقلال البلاد وثرواتها.
المؤسّسات الاستعماريّة كلّها وسوست في صدور الناس أنّ الدِّين لا يلتقي مع السياسة. الروحانيّة ليس عليها أو ليس لها أن تتدخّل في الشؤون الاجتماعيّة. ليس من حقّ الفقهاء أن يعملوا لتقرير مصير الأمّة. ومن المؤسف جدّاً أنّ بعضاً منّا صدّق تلك الأباطيل. وقد تحقّق بهذا التصديق أكبر أمل كانت تحلم به نفوس المستعمرين.
انظروا الهيئات الدينيّة، فستجدون آثار ونتائج تلك الدعايات واضحة. فهنالك البطّالون من عديمي الهمم، وهنالك الكسالى الّذين يكتفون بالدعاء، والثناء، والتحدّث في بعض المسائل الشرعيّة، وكأنّهم لم يُخلقوا لغير ذلك. وممّا يُمكن رؤيته في هذا الجوّ من تلك الآثار والنتائج هو النغم التّالي: "الكلام يتنافى ومقام العالِم".
المجتهد لا يليق به أن يتكلّم، ويحسن به أن يُكثر الصمت ويكتفي بقول: لا إله إلا الله، أو يكتفي باليسير جدّاً من الكلام"! هذا خطأ، وفيه مخالفة للسنّة الشريفة. فالله يُثني على البيان في سورة الرحمن بقوله تعالى:﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾([7]) وهو بهذا يمنّ على عباده أن علّمهم البيان، ويُذكّرهم بفضله ونعمته المسبغة عليهم في هذا التعليم.
فالبيان إنّما حَسُنَ لأجل تعليم الناس عقائدهم السليمة، وأحكام دينهم، وقيادتهم إلى شاطئ الإسلام. وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام أكبر أمراء البيان. الحكومة الإسلامية في فكر الإمام الخميني، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
([1]) رضا خان والد محمّد رضا بهلوي، الشاه المخلوع، الّذي أطاحت به الثورة الإسلاميّة. ([2]) يقصد سماحته رئيس منظمة "السافاك" آنذاك، ويدعى "باكروان" إذ جاء لمقابلته بتاريخ 2/8/1963م، عندما كان الإمام في السجن. راجع "دراسة وتحليل نهضة الإمام الخميني"، ج1، ص575. ([3]) المقصود السيّد حسن القمّي ابن المرحوم آية الله السيد حسين القمّي، الّذي كان يومها مع الإمام في السجن، وقد بقي منفيّاً في منطقة "كرج" حتّى انتصار الثورة حيث حرّر من النفي وعاد إلى مشهد. ([4]) ساسة" جمع "سائس" بمعنى رجل السياسة ومتولّي الأمر أيضاً، وقد ورد هذا التعبير في زيارة (الجامعة الكبرى)، راجع "من لا يحضره الفقيه"، ج2، ص370، أبواب الزيارة، بار 225، الحديث 2. ([5]) بتاريخ 3/8/1963م نشرت الصحف الإيرانية هذا الخبر: "أفادت المعلومات الرسمية لمنظمة الأمن والاستخبارات "السافاك" بأنّه قد تمّ التفاهم بين القيادات الأمنيّة وبين حضرات السادة: الخمينيّ، والقمّي، والمحلّاتي، على ألّا يتدخلوا في الشؤون السياسيّة". راجع "نهضت الإمام الخميني" ج1، ص585، و"الكوثر" ج1، ص104. ([6]) في كلمة ألقاها يوم الجمعة 10/4/1964م بمنزله، قال الإمام الخمينيّ قدس سره: كتبوا في الصحف بتاريخ 3/8/1963م حين أطلقوا سراحي من السجن، ما يُفهم منه أنّ علماء الدِّين لن يتدخّلوا في السياسة. وأنا الآن أبيّن لكم حقيقة الأمر. لقد جاءني أحدهم ولا أريد ذكر اسمه. وقال لي: "أيّها السيد إنّ السياسة كذبٌ وخداع وغش ونفاق، والخلاصة أنّها بلاءٌ ولعنة، فدعوا ذلك لنا نحن". وبما أنّ الظرف لم يسمح فلم أشأ مناقشته، فقلت له: نحن منذ البداية لم نتدخّل في هذه السياسة الّتي تتكلّم عنها. والآن حيث يستلزم الظرف ذلك. فإنّي أقول: أنّ هذا ليس من الإسلام في شيء. والله إنّ الإسلام كلّه سياسة. لقد بيّنوا الإسلام بشكلٍ غير سليم، إنّ سياسة المدن تنبع من الإسلام، إنّني لست من أولئك الملالي (والمشايخ) الّذين يكتفون بالجلوس والتسبيح. أنا لست "البابا" أكتفي بتأدية بعض المراسم يوم الأحد وأنصرف بقيّة الأوقات إلى شأني دون التدخّل في الأمور الأخرى. "الكوثر" ج1، ص104 ـ 105. ([7]) سورة الرحمن، الآية: 4 |