النصر هو نعمة من النعم الإلهيّة التي يمكن أن تُنسب إلى الله تعالى، بناء على نسبة النعم إليه تعالى، ولكن لأجل خصوصيّة هذه النعمة نستعرض عددًا من الآيات التي تنسب هذه النعمة بخصوصها إلى الله عزّ وجلّ. بل إنّ بعض آيات القرآن الكريم يحصر هذه النعمة به عزّ وجلّ دون غيره من الناس أو المخلوقات. يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرً﴾[1]. بناء على أنّ المراد من النصر كما تقدّم هو العون والمدد الذي يمنّ الله به على المؤمنين لتتحقّق لهم النتيجة التي يرجونها منه تعالى. ويقول تعالى في آية يحصر فيها النصر والعون به دون غيره من الوسائل والوسائط: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾[2]. ويقول عزّ وجلّ أيضًا: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[3]. الدعاء بالنصر وطلبه من الله ولا يقف الأمر عند حدّ الإخبار عن فعل الله في القرآن، بل أدّبنا التراث الدعائي الصادر عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام على طلب النعم كلّها من الله، ومنها النصر. وتكتفي بذكر نصّين، هما:
1- دعاء الافتتاح: هذا الدعاء من الأدعية التي يواظب المسلمون على قراءتها في ليالي شهر رمضان وهو من مفاخر الأدعية الإماميّة. وفيه طلب كثير من النعم من الله تعالى، ومن هذه النعم النصر الذي تكرّر ذكره بأشكال مختلفة على النحو الآتي في الدعاء للإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه: "اللهمّ أعزّه واعزز به، وانصره وانتصر به، وانصره نصرًا عزيزًا، وافتح له فتحًا يسيرًا، واجعل له من لدنك سلطانًا نصيرًا... وانصرنا به على عدوّك وعدوّنا... وأعنّا على ذلك بفتح تعجّله... ونصرٍ تعزّه وسلطان حقٍّ تظهره...". 2- من الصحيفة السجاديّة: وفي الصحيفة السجاديّة الكثير ممّا له صلة بهذا المعنى، وعلى رأس ما يمكن الإشارة إليه من أدعية الصحيفة وممّا له صلة بمفهوم النصر وطلبه من الله، قوله عليه السلام: "وَأَلِّفْ جَمْعَهُمْ، وَدَبِّرْ أَمْرَهُمْ، وَوَاتِرْ بَيْنَ مِيَرِهِمْ، وَتَوَحَّدْ بِكِفَايَةِ مُؤَنِهِمْ، وَاعْضُدْهُمْ بِالنَّصْرِ، وَأَعِنْهُمْ بِالصَّبْرِ، وَالْطُفْ لَهُمْ فِي الْمَكْرِ"[4]. وليس هذا المورد الوحيد في هذه الصحيفة المباركة، بل ثمّة غيره كثير ممّا يدلّ على النصر من عند الله تعالى، وينبغي أن يُطلب منه. التوحيد الأفعالي ونسبة النصر إلى الله يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اكتب بقلم العقل على صفحة القلب: لا مؤثّر في الوجود سوى الله". كلمة رائعة تصدر عن شخص خبر انحصار التأثير في الوجود بالله سبحانه وتعالى، وعاشه معرفة وتجربة وسلوكًا. وهذه الكلمة الرائعة ليست مجرّد تجربة شخصيّة يعبّر عنها هذا العارف الكبير في لحظة وجدٍ وساعة كشف، بل هي جزء من عقيدة الإمامية في التوحيد. وتوضيح ذلك أنّ التوحيد بحسب الرؤية الإمامية ينقسم إلى أقسام عدّة هي:
1- التوحيد في مقابل التعدّد: ومعنى هذه المرتبة من التوحيد الإيمان بأنّ الله واحدٌ لا شريك له. وهو أدنى مراتب التوحيد. وهذه المرتبة يعبّر عنها بعض العلماء بأنّها توحيد العوامّ، لقدرة جميع الناس على فهمها وإدراكها والاعتقاد بها. 2- التوحيد في مقابل التركيب: ومعنى هذه المرتبة نفي تركّب الذات الإلهيّة من أجزاء، كالوجود والماهيّة وغير ذلك. ويستدلّ علماء العقيدة على هذه المرتبة من التوحيد بأنّ المركّب يحتاج إلى أجزائه والله سبحانه غنيّ عن كلّ شيء حتّى عن الأجزاء. 3- التوحيد في مقابل زيادة الصفات: والمراد من هذه المرتبة من مراتب التوحيد أنّ صفات الله تعالى ليست زائدة على الذات، لأنّها إن كانت حادثة فهذا يعني أنّ الله لم يكن متّصفًا بها ثمّ صار، وإن كانت قديمة فهذا يعني تعدّد القدماء، الأمر الذي لا ينسجم مع التوحيد بمعناه الأسمى الذي تقرّه العقيدة الإماميّة. وإن كان غير الإمامية يقبلون هذا المعنى ويؤمنون بما يسمّونه "القدماء الثمانية"[5]. 4- التوحيد الأفعاليّ: وحاصله أنّ الله تعالى لا يحتاج إلى أحد ليساعده على نيل ما يريد وتحقيق ما يشاء. وبحسب تعبير الشيخ جعفر سبحاني: التوحيد الأفعالي هو أن نعترف بأنّ العالم بما فيه من العلل والمعاليل، والأسباب والمسبّبات، ما هو إلا فعل الله سبحانه، وأنّ الآثار صادرة عن مؤثّراتها بإرادته ومشيئته. فكما أنّ المخلوقات غير مستقلّة في ذواتها بل هي قائمة به سبحانه فكذا هي غير مستقلّة في تأثيرها وعليّتها وسببيّتها. فيستنتج من ذلك أنّ الله كما لا شريك له في ذاته، كذلك لا شريك له في فاعليّته وسببيّته، وأنّ كلّ سبب وفاعل، بذاتهما وحقيقتهما وبتأثيرهما وفاعليّتهما، قائمٌ به "سبحانه وأنّه لا حول ولا قوّة إلا به"[6]. وتوجد مرتبة أخرى من التوحيد يحتاج التمييز بينها وبين هذه المرتبة إلى تدقيق ومزيد تفصيل ليس هذا محلّه وهو ما يسمّيه بعض العلماء بـ"التوحيد الاستقلاليّ"[7]. ويمكن إثبات هذه المرتبة من التوحيد بالاعتماد على العقل والدليل الفلسفيّ، كما يمكن إثباتها بالرجوع إلى القرآن الكريم. والدليل العقليّ الذي يستند إليه العلماء لإثبات هذه المرتبة من التوحيد يرتكز إلى تفسير طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوقين أو فلنقل بين العلّة الموجدة وبين الموجودات. فوجود الممكن وجود رابط غير مستقلٍّ، وما ليس مستقلًّا في أصل وجوده لا يمكن أن يكون مستقلًّا في تأثيره بل من الضروريّ أن تكون آثاره مرتبطة ومتوقّفة على العلّة الموجدة كأصل وجوده. وأما من القرآن الكريم فتوجد آيات عدّة يمكن أن يُستفاد منها هذا المعنى، ومن هذه الآيات:
أ- قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾[8]. ففي هذه الآية يبيّن الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ فاعل الرمي هو الله، والنتيجة المترتّبة على الرمي ينبغي أن تُنسب إلى الله، وليس إلى سواعد المجاهدين. ب- كلّ الآيات التي تنسب بعض أفعال الإنسان إلى الله تعالى، كقوله عزّ وجلّ: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾[9]. ففي هذه الآية ينفي الله عزّ وجلّ الزرع عن الإنسان وينسبه إلى نفسه ولو بصيغة السؤال. وهذا يعني أنّه هو المؤثّر الأوحد في الوجود، على الرغم من اعتقاد الإنسان السطحيّ بأنّه هو الذي يزرع ويسقي الزرع ويرعاه لينمو ويحين وقت حصاده. ج- قوله تعالى: ﴿وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[10]. يقول السيد الطباطبائي في تفسير مجموعة الآيات التي وردت هذه الآية في سياقها: وهذه الآيات تعلّل ذلك (أي أنّ الشرك يسوق الإنسان إلى الهلاك) بأنّ ربّ الجميع واحدٌ إليه تدبير الكلّ يجب عليهم أن يدعوه ويشكروا له وتؤكّد توحيد ربّ العالمين من جهتين: إحداهما: أنّه تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض جميعًا ثمّ دبّر أمرها بالنظام الأحسن... والثانية: أنّه تعالى هو الذي يهيّئ لهم الأرزاق بإخراج أنواع الثمرات..."[11] ثمّ يتابع السيد الطباطبائي شرح مفهوم النظام الواحد الحاكم على الكون كلّه بجميع تفاصيله وجزئيّاته، ويقول أخيرًا: "والباحث عن النظام الكونيّ يجد أن الأمر فيه على هذه الشاكلة، فالحوادث الجزئية تنتهي إلى علل وأسباب جزئية، وتنتهي هي إلى أسباب أخرى كلية حتى تنتهي الجميع إلى الله سبحانه غير أن الله سبحانه مع كلّ شيء وهو محيط بكل شيء"[12]. إذًا هذه هي الرؤية الإسلامية إلى التوحيد، وعلى ضوء هذه الرؤية وانطلاقًا منها ينسب المسلمون النصر إلى الله كما ينسبون الرزق إليه على حدٍّ سواء. فالأمر بناء على هذه الرؤية ليس من باب التبرّك، ولا من باب المبالغة بل هذه النسبة من مقتضيات العقيدة الدينيّة الإسلامية، وجزء من الرؤية الكونية الإسلاميّة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] سورة الأحزاب، الآية 9. [2] سورة آل عمران، الآية 126, وانظر: سورة الأنفال: الآية 10. [3] سورة الصف، الآية 13. [4] الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجاديّة، من دعائه لأهل الثغور. [5] انظر: محمد تقي مصباح اليزدي، دروس في العقيدة الإسلامية، ترجمة هاشم محمد، رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية، قم، 1997م، ص 151 - 153. [6] الشيخ جعفر سبحاني، مفاهيم القرآن، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، قم، ج 1، ص 15. [7] لمزيد من التفصيل، انظر: الشيخ اليزدي، مصدر سابق، ص 155. [8] سورة الأنفال: الآية 17. [9] سورة الواقعة، الآيتان 63 و 64. [10] سورة الأعراف، الآية 54. [11] الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 147. [12] (م.ن)، ص 150. |