من "الترينش - كوت" إلى "البيريه" والكوفية، كيف انتقلت الأزياء العسكرية من أدوات وظيفية في ساحات المعارك إلى عناصر جمالية في عالم الموضة؟ يُشكّل انتقال الأزياء العسكرية من أدوات وظيفية في ساحات المعارك إلى عناصر جمالية في عالم الموضة، ظاهرة ثقافية لافتة. في الواقع، صُمِّمت الملابس العسكرية - كالمعطف الواقي من المطر (trenchcoat)، والسروال العسكري (cargo pants)، والقبعة العسكرية (Béret) - لتؤدي وظائف مُحدّدة في الميدان العسكري، غير أن دمجها في عالم الموضة أكسبها دلالات ثقافية واجتماعية جديدة، بعيدة من أهدافها الأساسية. وتعمل الموضة، وفقاً للفيلسوف الفرنسي، رولان بارت، كنظام رمزي يعيد تشكيل الملابس في سياقات جديدة، مُحوّلاً إياها إلى أدوات للتعبير عن القيم الاجتماعية المتغيّرة والتفضيلات الشخصية. هكذا أصبح المعطف الواقي رمزاً للأناقة والقوة، وتحوّلت قبعة "البيريه" إلى رمز للتميّز والإبداع، كما تطوّر السروال العسكري ليؤمن الأداء العملي والراحة في الحياة اليومية. وسنعرض في هذه المادة أهم الأزياء العسكرية التي انتقلت من الجبهة إلى درج ملابس الشعب لتصبح موضة عالمية. "الترينش - كوت": من الخنادق إلى الأفلام الكلاسيكية في العام 1880، ابتكر المُصمِّم الإنكليزي، توماس بربري، قماشاً من القطن المضغوط يقاوم الماء والرياح، وصنع منه معطفاً واقياً من الأمطار. عندما اقتربت الحرب العالمية الأولى، أصبح من الضروري تجهيز الجنود بهذا المعطف، الذي اكتسب اسم «ترينش كوت» نسبة إلى الخنادق التي نشأت فيها الحاجة إليه. لكن الترينش - كوت لم يقتصر على ساحات المعركة فقط، بل ارتداه أيضاً المغامرون، مثل روالد أموندسن (1872-1928)، أول رجل وصل إلى القطب الجنوبي، وسير إرنست شاكلتون (1874-1922) خلال البعثات التي قادها إلى القارة القطبية الجنوبية. أما في عالم الموضة، فسرعان ما أصبح «الترينش كوت» رمزاً للأناقة البريطانية، بحيث تميّز به نجوم كبار في "هوليوود" مثل همفري بوغارت في فيلم كازابلانكا (1942). أما في حقبتي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، فارتدته أيقونات، مثل جين كيلي وأودري هيبورن، الأمر الذي جعل منه قطعة أساسية في خزانة النساء كما الرجال. واليوم، يبقى الترينش- كوت قطعة لا غنى عنها في عالم الموضة، بفضل جودته العالية وتصميمه الفريد. السترة العسكرية: من ساحة المعركة إلى السجادة الحمراء استخدم الجيش الأميركي السترة العسكرية (M-65 Field Jacket) للمرة الأولى عام 1965، وهي تتميّز بتصميمها المقاوم للظروف المناخية القاسية. إذ إنها مصنوعة من قماش قطني معالج بطبقة عازلة تقاوم الأمطار والرياح. وتشمل المواصفات التقنية لهذه السترة وجود غطاء رأس يمكن إخفاؤه داخل جيب في الجزء الخلفي من الياقة، إضافة إلى أشرطة فيلكرو عند الكمين والياقة لإحكام الإغلاق وحماية مرتديها من الأمطار. كما تحتوي على 4 جيوب أمامية، الأمر الذي يوفر مساحة تخزين كبيرة للمعدات الشخصية. وكان استخدام السترة العسكرية واسع النطاق خلال حرب فيتنام، بحيث كانت جزءاً أساسياً من تجهيزات الجنود العاملين في المناطق الجبلية الباردة. ومع مرور الزمن، أصبحت M-65 جزءاً من الزي اليومي للجنود في مختلف النزاعات حول العالم. فيما بعد، برزت هذه السترة في الثقافة الشعبية، إذ ارتدتها شخصيات شهيرة في أفلام مثل "تاكسي درايفر" و"رامبو"، الأمر الذي عزّز مكانتها كقطعة أزياء خالدة تمتزج فيها الوظائف العسكرية مع لمسات من الأناقة العفوية. ثياب التمويه: من ساحات القتال إلى أزياء الشارع تم تطوير أنماط التمويه (camouflage) للمرة الأولى خلال الحرب العالمية الأولى، بحيث سعى الجيش الفرنسي لإخفاء الجنود عن أنظار العدو من خلال دمجهم في عناصر البيئة المحيطة، مثل الأشجار والصخور. في البداية، استعان الفرنسيون بفنانين تشكيليين مثل الرسام لوسيان فيكتور غيران دي سيفولا، الذي ساهم في ابتكار تقنيات تمويه بصري فعالة. لاحقاً، تبنى البريطانيون والأميركيون هذه الفكرة، فطوروا أنماط تمويه خاصة بهم تتلاءم مع بيئات مختلف القتال. مع انتشار رقعة الحروب، أصبحت أزياء التمويه عنصراً أساسياً في تجهيزات الجنود على مستوى العالم، حيث تمّ تطويرها لتتكيّف مع التضاريس الصحراوية، والغابات، والمناطق الثلجية. خلال الثمانينيات من القرن العشرين، خرجت أزياء التمويه من نطاقها العسكري وصارت رمزاً للتمرد والشجاعة بين الشبان، وخصوصاً مع انتشار موسيقى "الهيب هوب" التي تبنّت هذه الأنماط كجزء من هوية ثقافية تُعبّر عن التحدّي والاستقلالية. حالياً، باتت هذه الأنماط تُستخدم كوسيلة للتعبير عن الذات، وكرمز للثقافة المضادة (counterculture). لم تتأخر دور الأزياء العالمية في الاستحواذ على أزياء التمويه، وأعادت علامات تجارية شهيرة مثل "دولتشي أند غابانا" و"لويس فيتون" تقديم هذه الأنماط بأسلوب يتّسم بالفخامة والجرأة. البنطال العسكري: الأناقة العملية اكتسب البنطال العسكري مكانة مميزة في عالم الموضة الرجالية المعاصرة، بحيث أصبح من القطع الأساسية التي تنافس الجينز التقليدي. يعود أصل هذا النوع من البنطال إلى أوائل القرن العشرين، بحيث صُمم لتلبية احتياجات الجنود البريطانيين في ساحات القتال. في البداية، كان تصميم "الكارغو بانتس" بسيطاً وفعّالاً، بحيث زُوِّد بجيوب واسعة وعملية على الجانبين، الأمر الذي سمح للجنود بحمل الذخيرة والمعدات الأساسية بشكل آمن ومريح. بعد الحرب العالمية الثانية، عاد كثيرون من الجنود إلى ديارهم في ملابسهم العسكرية، وهو ما أتاح لهذه القطعة العملية الانتشار ودخول الأزياء المدنية. في تسعينيات القرن الماضي، شهد البنطال العسكري تحولاً كبيراً، بحيث ارتقى من قطعة عملية إلى أيقونة في عالم الموضة، وخصوصاً بعد أن بدأت كبرى العلامات التجارية في دمج عناصره في الملابس اليومية. اليوم، لا يزال البنطال العسكري يحتفظ بجاذبيته، ولاسيما أنه يتمتع بمرونة لا تضاهى، إذ يمكن تنسيقه مع مختلف الإطلالات، سواء للحصول على مظهر أنيق أو مظهر يتسم بالراحة. أحذية الكومبات: رمز القوة والأناقة تمّ تطوير البوط العسكري خلال الحرب العالمية الأولى، ليصبح أداة أساسية لحماية الجنود من الطين والبرد والرطوبة. مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، شهد البوط العسكري تطوراً كبيراً، ليصبح جزءاً لا يتجزأ من معدات الوحدات الخاصة. أغرم جميع الجنود بهذا البوط بسبب تصميمه الذي يوفر دعماً للقدم والكاحل، إلى جانب طرفه الصلب الذي يمنحهم حماية إضافية. مع نهاية القرن العشرين، بدأ البوط العسكري مغادرة ميادين المعارك ليتخذ مكاناً له في شوارع المدن الكبرى، ويصبح جزءاً من الموضة الحضرية. مع مرور الزمن، تحوّل البوط العسكري من رمز للصلابة والقوة في ميادين القتال إلى قطعة أساسية في خزانة الملابس الرجالية، تجمع بين التصميم العمليّ والشياكة. اليوم، لا يزال البوط العسكري يثير اهتمام المصمّمين العالميين، ويشحذ مخيلتهم. في هذا السياق، أقدمت مجموعة من العلامات التجارية، مثل "دكتور مارتينز" و"تيمبرلاند" و"بالنسياغا"، على تقديم تصاميم حديثة لهذا البوط الأسطوري، مع المحافظة على ميزاته التقنية الأساسية، مثل المتانة والدعم، وإضافة لمسات من الفخامة والراحة. "البيريه": من المجال العسكري إلى الفنيّ ظهرت "البيريه" في الحضارات القديمة، كالحضارتين اليونانية والرومانية، في أشكال متعددة تعكس المكانة الاجتماعية لصاحبه. خلال العصور الوسطى، ارتبطت "البيريه" بالطبقات الفقيرة، وخصوصاً المزارعين والفنانين، بحيث برزت في أعمال فنية لرسامين مشهورين، مثل رمبرانت وفيرمير. في فرنسا، كانت للبيريه مكانة خاصة بين رعاة المناطق الجنوبية، مثل البيرينيه والباسك، والذين استخدموها لحماية الرأس من الرياح ومقاومة الظروف القاسية. مع بداية القرن التاسع عشر، أصبحت "البيريه" رمزاً سياسياً، فاستخدمها المقاتلون والجنود مثل "القوات الجبلية الفرنسية" (Chasseurs Alpin). كما استخدمها الثوار في إسبانيا، مثل القادة الكارليين الذين اختاروا البيريه الحمراء رمزاً لهم. خلال القرن العشرين، انتقلت "البيريه" إلى المجال العسكري العالمي، بحيث تبنتها وحدات عسكرية متعددة، مثل القبعات الخضر الأميركية، والبارتيزان في أوروبا. في الوقت ذاته، أصبحت "البيريه" جزءاً من الموضة الباريسية، إذ ارتبطت بالمثقفين والفنانين في شارع "مونمارتر"، لتتحول إلى رمز للأناقة البوهيمية. لم تقتصر "البيريه" على الأزياء أو الحروب، بل باتت أيضاً وسيلة للتعبير عن الثورات، كما هي الحال مع تشي غيفارا وفيديل كاسترو في كوبا، وأعضاء حركة "البلاك بانثر" في الولايات المتحدة. الكوفية الفلسطينية: من رمز للمقاومة إلى صيحة عالمية أضحت الكوفية الفلسطينية، التي تُعرف بالنسيج المميّز ذي المربعات السوداء والبيضاء، رمزاً عالمياً يُعبِّر عن الصمود والمقاومة، وخصوصاً بعد أن وضعها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وظهر فيها في المحافل الدولية. لكن جذور هذا الرمز تعود إلى أعماق التاريخ والثقافة العربيين، إذ تشير الأبحاث إلى أن أصل كلمة "كوفية" يعود إلى مدينة الكوفة في العراق، بحيث ارتبطت بالمعارك التي دارت هناك في القرن السابع الميلادي بين العرب والفرس. وتشير الأبحاث نفسها إلى أنّ العرب استخدموا الحبال المصنوعة من شعر الجمال لتثبيت أغطية رؤوسهم والتعرُّف إلى بعضهم البعض في ساحات المعركة. ومع انتصارهم، أصبحت الكوفية رمزاً لتلك اللحظات التاريخية. وتفيد أبحاث أخرى بأن أصل الكوفية يعود إلى حضارات ما قبل الإسلام في بلاد ما بين النهرين، بحيث كان الكهنة السومريون والبابليون يضعون أغطية رأس شبيهة بها منذ نحو 5000 عام. خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، صارت الكوفية جزءاً من حركات الاحتجاج العالمية، ولاسيما بعد أن استخدمها زعماء مناهضون للاستعمار، مثل فيدل كاسترو ونيلسون مانديلا. ولاحقاً، انتقلت الكوفية من رمز للمقاومة إلى عالم الموضة، بحيث ظهرت في عروض الأزياء العالمية، وأصبحت قطعة شائعة في الثقافة الشبابية. وعلى رغم الانتشار العالمي للكوفية، فإن استخدامها من بعض دُور الأزياء الفاخرة أثار جدلاً بشأن مسألة الاستيلاء الثقافي، بحيث تعرضت علامات تجارية، مثل "بالينسياغا"، لانتقادات بسبب استغلالها الكوفية من دون الاعتراف بدلالاتها السياسية والثقافية. |