قال الله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾1. سبب النزول: كان المشركون يؤذون المسلمين (في مكّة)، وكان المسلمون يأتون مراراً مضروبين، ومجروحين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يشكون من ذلك، فيقول رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم: "عليكم بالصبر، فإنّي لم أؤمر بعد بالقتال"، وبعد هجرته إلى المدينة أنزل الله عليه هذه الآية، وهي أوّل آية نزلت في القتال2. الإشارات والمضامين: 1- تشريع الجهاد: هذه الآية شرَّعت الجهاد، وأذِنت للمسلمين بالقتال، فالمراد بقوله: ﴿أُذِنَ﴾، الإذن بالجهاد، وجملة ﴿لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ بدل قوله: (الذين آمنوا)، يدلّ على أنّ المأذون فيه هو القتال (ضد المشركين)3. 2- ابتداء المشركين القتال ضد المسلمين: إنّ الفعل في جملة ﴿لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ مبنيّ للمجهول، فيدلّ على أنّ المشركين هم الذين أرادوا الحرب، وهم شرعوا بإيقاد شعلتها4. 3- علّة تشريع الجهاد ظلم المشركين للمسلمين: الباء في ﴿بِأَنَّهُمْ ظُلِمُو﴾ للسببية، وفيه تعليل الإذن بالقتال، أي أُذِن لهم بالقتال لأنّهم ظُلِموا، والآية التي تليها ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ...﴾5 تفسّر ماهيَّة (حقيقة) هذا الظلم6. قال الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾7. الإشارات والمضامين: 1- وجوب الدفاع والجهاد على المؤمنين كافّة: عبارة ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾، أوجبت القتال، والآية تخاطب المؤمنين كافّة، فالجهاد والدفاع واجب عليهم كافّة إلا من استُثني لدليل معتبر كالمريض، والأعمى، والجريح8 و...، وقد أجمع المفسِّرون على أنّ هذه الآية دالّة على الوجوب الكفائي للجهاد، فإذا تخلّف الناس عنه أَثِمُوا جميعاً، وإن قام به من يكتفى بهم سقط عن الباقين9. 2- معنى كُره المؤمنين للجهاد: من الواضح أنّ الجهاد تكليف إلهي، وأما في كونه مشقّة وكرهاً للمؤمنين، فهذا فيه أكثر من تفسير: الأول: إنَّ في الجهاد مشقّة للمؤمنين، ولهذا لا رغبة لهم فيه، ولكنّ كراهتهم له كراهة طِبَاع وليس على وجه السخط، لأنّ الشيء قد يكون مكروهاً عند الإنسان في طبعه، ونفسه تنفر منه، ولكنّه يقوم به لأنّ الله تعالى أمره بذلك كالصوم في الصيف10. الثاني: القتال متضمّن لفناء النفوس، وتعب الأبدان، والإضرار بالمال، وانعدام الأمن والرفاهية، وبالتالي كان كرهاً وشاقّاً لبعض المؤمنين بالطبع. الثالث: إنَّ المؤمنين في صدر الإسلام كانوا يرون أنّ القتال مع الكفّار، - مع ما لهم من العدّة والقوّة -، ليس فيه صلاح الإسلام والمسلمين، وأنّ الحزم إنّما هو في تأخيره حتى يتمّ لهم الاستعداد المطلوب. الرابع: إنَّ المؤمنين لكونهم متربّين بتربية القرآن، كان فيهم خُلُق الشّفقة على خَلْق الله، وملكة الرحمة والرأفة، فكانوا يكرهون القتال مع الكفّار، لكونه مؤدّياً إلى فناء نفوسهم في معاركهم مع الكفر، ولم يكونوا راضين بذلك، بل كانوا يحبّون أن يداروهم، يُخالطوهم بالعشرة الجميلة، والدعوة الحسنة لعلّهم يُرشدون بذلك11. 3- مصلحة الجهاد ومفسدة تركه للمؤمنين: حيث إنّ الجهاد ينطوي على ﴿إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾: إمّا النصر والغنيمة وإما الشهادة والجنّة، فهو منشأ الخيرات للمسلمين، وفي أدائه مصلحة. وبما أنّ في تركه ذلّاً وحرماناً من الغنيمة، والثواب الأخروي، ففي تركه مفسدة لهم12، ولأنّ المؤمنين كانوا كارهين للحرب، محبِّين للصّلح والسّلم، أراد الله تخطئتهم في الأمرين معاً، وبيان أنّ ملاك المصلحة والمفسدة ليس بحسب رغبتهم وكراهتهم، فأورد كلمة (عسى) في الجملتين المستقلتين13 للدلالة على ذلك. 4- ترغيب المؤمنين بالجهاد: في الآية ترغيب للمؤمنين بالجهاد، لأنّهم إذا ما عرفوا قصور علمهم، وكمال علم الله تعالى بالمصالح والمفاسد الحقيقية لهم، وعلموا أنّه سبحانه لا يأمر العبد إلاّ بما فيه خيره ومصلحته، وجب عليهم الامتثال لما أمرهم الله تعالى به، سواء أكان مكروهاً للطبع أو لم يكن14. قال الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾15 . أسباب النزول: ذهب بعض المفسِّرين إلى أنّ هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وذهب بعضهم إلى أنّها أول آية نزلت في الجهاد16. الإشارات والمضامين: 1- وجوب الدفاع: ﴿قَاتِلُو﴾ فعل أمر دال على الوجوب، والمراد من عبارة ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾، الذين حالهم القتال مع المؤمنين من مشركي مكة، والمراد بآية ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾، القتال: محاولة الرجل قتل من يحاول قتله، فهو عبادة يقصد بها وجه الله17. 2- تشريع الجهاد: بناءً على ظاهر الآية، فالمراد من ﴿يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ بيان حال ووصف العدو، وهذا حال من كان من المشركين في مكّة يقاتل المسلمين، وبالتالي أُذن للمسلمين بالقتال كما في آية ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا...﴾18 سواء أكان بعنوان الدفاع عن المسلمين، أو عن بيضة الإسلام، أو كان القتال قتالاً ابتدائياً، فالكل بالحقيقة دفاع وجهاد ضد المشركين19 وعليه: فسياق هذه الآية مطابق لسياق الآية 39 من سورة الحج ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا...﴾ وفيه دلالة على الإذن الابتدائي بالجهاد ضد المشركين20. 3- قيمة الجهاد والدفاع كونه في سبيل الله: ﴿فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾ قيد يُبيِّن أنّ هدف المجاهد المؤمن من الجهاد والدفاع هو إقامة الدين، وإعلاء كلمة التوحيد، ومثل هذه الحرب هي عبادة ويجب أن تُخاض بنيّة كسب الرضا الإلهي والتقرّب من الله تعالى، وليس الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم21. 4- الطبيعة الدفاعية للحرب في الإسلام: يستفاد من هذه الآية أنّ الحرب في الإسلام لها بُعدٌ دفاعي، فيقرّ الإسلام مبدأ الدفاع عن الحقّ المشروع للبشر عن طريق الحرب والجهاد، وهذا الحقّ تعترف به الفطرة الإنسانية لكل الناس22 وهو الحقّ بالعيش بحرية وكرامة. 5- النهي عن البدء بالقتال: الآية تأمر بالقتال ضد الذين يقاتلون، وهذا بيان عن النهي عن البدء بالقتال قبل بدئهم به23 كما أنّ عبارة ﴿وَلاَ تَعْتَدُو﴾ تعني لا تعتدوا بقتال من لم يبدأكم بقتال24. 6- النهي عن قتال غير المحاربين: هذه الآية تأمر المسلمين بقتال من يقاتلهم فقط، والنهي في ﴿وَلاَ تَعْتَدُو﴾ عن الاعتداء وهو الخروج عن الحد، يُقال: عدا، واعتدى إذا جاوز حده، وتعدي الحد يكون بالقتال قبل دعوته إلى الحق، أو الابتداء بالقتال، أو قتل النساء والأطفال، أو عدم الانتهاء إلى العدو...25. 7- وجوب الالتزام بكلّ مقررات وقوانين الجهاد والدفاع: النهي عن الاعتداء شامل، ويضمّ كلّ ما يصدق عليه أنّه اعتداء، كما هو ظاهر في العنوان السابق مما بيّنته السنة النبوية26. وعليه، فالنهي في عبارة ﴿وَلاَ تَعْتَدُو﴾ فيه دلالة على وجوب الالتزام بكلّ قوانين ومقرّرات الجهاد حتى فيما لو تم أسر العدو، أو سقوطه جريحاً في أرض المعركة...، مما أوضحه آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما كانوا يوصون به من وصايا في الحرب حتى شملت حقوق العدو في الحرب27. |