إنّ الشهداء والقتلى في سبيل الله لا يموتون، بل هم أحياء يتنعمون في جوار الرضوان الإلهي، يقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾[1]. تبيّن الآية أنه ليس من الصحيح إطلاق اسم الأموات على هؤلاء الشهداء والقتلى في سبيل الله لأنهم وبكل ما لكلمة (حيّ) من معنى، هم الأحياء حقيقة وهم الفائزون واقعاً. وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[2]. تعتبر الرؤية القرآنية الشهداءَ أحياءً حقيقة، وإن كانوا قتلى وأموات ظاهراً، لأنهم ينعمون بأعلى مراتب ودرجات الحياة الحقيقية والملذّات الواقعية، والحياة الدنيوية بكل ملذّاتها غير قابلةٍ للمقايسة مع حياة الشهداء وملذّات ذلك العالم الأبدي، كيف ونحن في هذه الحياة الدنيا لسنا سوى ساعين نحو السعادة والملذات؟ وهل هناك لذة وسعادة أرفع وأسمى من أن ينال الإنسان الرضوان الإلهي وينعم بالرزق الرباني؟!! إن معرفة المسلمين لهذه التعاليم القرآنية وترسيخها في عقولهم وقلوبهم وتربية المجاهدين على معرفة المقام السامي للشهيد والمكانة الرفيعة للشهادة، ومعرفتهم بمعنى حياة الشهداء والرزق الإلهي، كل ذلك سيكون علاجاً ناجحاً لمرض القلق من الموت، بل إنه سيطرد هول الموت من قلوب هؤلاء الجهاديين، ويكون باعثاً لهم إلى عشق الشهادة، والاقتحام على الأعداء بلا خوف على أرواحهم وسيُحوّلون هذا العجز والضعف في النفوس إلى قوة وحماس، وجرأة واندفاع. ويمكن هنا أن يخطر بالذهن سؤال، بأنه إذا كانت الحياة بعد الموت لا تختصّ بالشهداء فقط، بل كلُّ البشر سوف يحيون بعد الموت ويذهبون إلى الحساب الإلهي، فلماذا إذن جعلنا الموضوع خاصاً بالشّهداء؟ وللجواب عن هذا السؤال نقول إنه، نعم، صحيح أن كلتي مرحلتي ما بعد الموت (الحياة البرزخية والحياة الأخروية) ليست مختصة بالشهداء فقط، بل هي حياة عامة لكل الناس، لكن هذه الحياة ليست هي نفسها وبمرتبة واحدة للكل. فالبعض له حياته البرزخية والأخروية المليئة بالعذاب والحسرات، والبعض الآخر له حياته البرزخية والأخروية المليئة بالسعادة والملذات، يقول الله تعالى عن أهل المعاصي والتعدّي على الحدود الإلهية، الذين سوف يكون مصيرهم إلى النار: ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى﴾[3]. وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾[4]. وفي آية ثالثة قال تعالى: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ﴾[5]. ففي الوقت الذي نعلم فيه أن هؤلاء العصاة أموات لا إدراك ولا إحساس لهم، فإن الآية تثبت لهم حياة عذاب ومشقة، بحيث إنهم يتمنّون الخلاص منها ويخاطبون ملك العذاب بقولهم:﴿لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ لأنهم يرون أنَّ الموت آلاف المرات أفضل من حياة العذاب هذه. فمن هنا يمكننا أن نفهم المراد من تلك الآيات التي تتحدّث عن حياة أخرى، ويمكننا أن نفهم معنى حياة الشهداء وأنهم ﴿أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[6]، فبعد الموت والرحيل عن هذه الدنيا سوف يكون الشهداء أمام حياة برزخية وأخروية سعيدة، وسوف يلقون جزاء عذاباتهم وسعيهم ومجاهدتهم. حياتُهم هناك كلّها لذة وسعادة، خصوصاً أولئك الذين لم تتعلّق قلوبهم بمتاع الدنيا وجاهدوا أنفسهم بمشقة، وراقبوا أعمالهم وأدّوا تكاليف خالقهم، وهم صُفوة هذا الخلق من ﴿...النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ﴾[7]. وفي الحقيقة أننا لو أردنا المقايسة بين الحياة البرزخية والأخروية وبين الحياة الدنيوية فأقل ما يمكن قوله إنه لا يمكن إطلاق كلمة (حياة) على العالم الدنيوي، لأن الحياة الحقيقية والصادقة ليست إلا في الآخرة، فهي حياة خاصة بالإنسان الكامل والنزيه ـ خاصة الشهداء الذين هم مورد بحثنا ـ حياة خالصة صافية من الكدورات والمشقات، يقول الله تعالى: ﴿وَمَاهَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ بناءً على كل ما تقدّم نرى أن الشهداء عندما يسقطون ويسيل دمهم ويفوزون بمقام الشهادة في سبيل الله، لا يموتون حقيقةً، بل ينتقلون إلى حياةٍ أكثرَ خلوداً ونعيماً، حياةٌ تكون الدُّنيا بكلِّ زينتها وملذّاتها وبريقها كألعوبة قياساً بالحياة الأخروية. لكن صدقاً: هل سيشعرُ من يمتلكُ هذه العقيدةَ الصادقة وهذا الإيمان الجازم بأدنى قلق أو اضطراب من الموت، أثناء المعركة! |