حرص أئمّتنا عليهم السلام على إحياء ذكرى عاشوراء[1]، وحثّوا أصحابهم على إقامة مجالس الحزن والبكاء في كلّ عام. وكذلك فعل علماء الدّين، الذين ساروا أيضاً على هذا المنوال، مقتدين بأئمّتهم عليهم السلام في السعي إلى نشر هذه الثقافة الحسينيّة، وفي حثّ الشيعة على إحياء المجالس وإقامتها. ويمكن القول: إنّ هذه العوامل المتقدّمة أسّست لقيام سنّةٍ ثابتة استطاعت أن تخلّد في النفوس ذكرى ثورة كربلاء وثوّارها، محوّلةً إيّاها إلى مدرسةٍ خالدة تستلهم الشعوب منها الدروس والعبر في مواجهة الطواغيت في كلّ عصرٍ وزمان، وتعلّمت منها كيف أنّ شعار "يا مظلوم" يمكن له أن يُهلك كلّ ظالم. وبهذا استطاعت كربلاء النفوذ إلى أعماق قلوب الناس وأرواحهم، وامتزجت بمعتقداتهم الفكريّة والاجتماعيّة والإنسانيّة، لتزرع في قلوبهم نفوراً دائماً وكراهية شديدة للظلم والظالمين، ما كان له أثر كبير في الحفاظ على نضارة التعاليم الإسلاميّة وحيويّتها. وقد لاحظ كثير من المفكّرين ما للمجالس الحسينيّة من الآثار والمنافع والبركات الكثيرة. فهذا (مارتين) - الكاتب الألمانيّ - يعترف بأنّ المنابر الحسينيّة إذا ما أحسن المسلمون استغلالها وتنظيمها فهي من أهمّ العوامل والأسباب لتقدّمهم وارتقائهم. وبالرغم من الأهمّيّة القصوى والمقام الرفيع الذي تحتلّه قضيّة عاشوراء في الفكر والثقافة الإسلاميّين، إلّا أنّنا نجد أنفسنا هنا مضطرّين إلى الاعتراف بأنّ هذه القضيّة اليوم قد فقدت كثيراً من عمقها ومحتواها في المجتمع الإسلاميّ، بسبب الغفلة عن حقيقة مضمونها، وعن رسالتها الأصليّة، وهي إحقاق الحقّ ورفض الظلم وتحقيق العدالة. لو ركّز المجتمع الشيعيّ الموالي لأهل البيت عليهم السلام اهتمامه على مضمون الثورة الحسينيّة ومحتواها، وتعلّم من وحي دروسها الكبرى، لكان من أكثر المجتمعات الإنسانيّة رقيّاً وتقدّماً. ولكن، وللأسف الشديد، فإنّ السماح لبعض النواقص والسلبيّات بالنفوذ إلى قراءة العزاء حال، ويحول، دون استفادة المجتمع الشيعيّ منها بشكلٍ كامل[2]. إنّ تطوير مجالس العزاء وترشيدها وتقويمها يتطلّب الوقوف في وجه تلك النواقص والأمور السلبيّة تحت ظلال توصيات وإرشادات مراجع التقليد العظام وعلماء الدّين العاملين الذين لهم خبرة ومعرفة بالأخطار التي تهدّد قضيّة عاشوراء، وذلك من خلال تظهير قضيّة عاشوراء بدقّة، وتقديمها للناس بصورةٍ جليّةٍ، والتركيز على جوهرها وحقيقة مضامينها، وعلى كلٍّ ركن من الأركان التي تتشكّل منها هذه المجالس أن يتحمّل المسؤوليّة والوظيفة الملقاة على عاتقه، كلّ على حسب قدرته وطاقته. * نهضة عاشوراء (3)، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية [1] راجع : تاريخ النياحة على الإمام الشهيد، ص120, المجالس السنيّة، ج5، ص123. [2] لا شكّ في أنّ عاشوراء تُعدّ كنزاً ثميناً من كنوز الإسلام الأصيل، ولكن من الواضح أنّها تعرّضت للعديد من المشكلات والنواقص التي لحقت بها إمّا على يد عدوٍّ مغرض، أو صديق جاهل، كما أنّ المنبر الحسينيّ وقع في بعض الأحيان ضحيّةً لقرّاء وخطباء لا أهليّة علميّة لهم تخوّلهم ارتقاء المنبر، أو أنّهم لا وعي لهم ولا معرفة بمصالح العالم الإسلاميّ والنظام الإسلاميّ، أو أنّهم لا يراعونها إن عرفوها. كما أنّ إدارة مجالس العزاء تسلّمها أحياناً أناس لا معرفة عميقة لهم بحقائق الدّين وتعاليمه، ولا يراعون اختلاف المصالح باختلاف العصور المتعاقبة والظروف الزمانيّة المتبدّلة. وقد عمد البعض إلى إثارة مشاعر الناس وعواطفهم للبكاء والإبكاء بأيّة طريقةٍ ممكنة، ولو كانت غير مشروعة، وغير مباحة، وهو أمر غير مقبول، وغير لائق بالمجالس الحسينيّة. ولكن مع ذلك، فلا يسعنا هنا إلّا أن نقرّ ونذعن بأنّه إذا كان هناك أجواء سلبيّة تحكم بعض المجالس، فإنّ هذا لا يشكّل داعياً إلى تجاهل الدور الكبير الذي تقوم به المجالس في حركة الهداية، ولا إلى تعطيل المجالس التي يمكن لها أن تكون منطلقاً للإصلاح في المجتمع، بل على العكس من ذلك، فإنّنا ندعو إلى ضرورة انضواء الخطباء وقرّاء العزاء ضمن مؤسّسات وتشكيلات منظّمة تعمل وفق برنامج مدروس ودقيق على تعريفهم بوظائفهم، بما يصبّ في خدمة مدرسة التشيّع والولاء لأهل البيت عليهم السلام وأهداف شهداء الطفّ، وبما يشكّل فرصة ذهبيّةً للإعداد لمجالس تجمع إليها عشّاق أهل البيت عليهم السلام، وتمنح السكينة لقلوبهم وأرواحهم، وتجعلهم أكثر تقبّلاً للمواعظ والمعارف، وأكثر قدرةً على مواجهة المفاسد الفرديّة والاجتماعيّة التي تشكّل خطراً على المجتمع الإسلاميّ. وعندئذٍ، سيكون للمجالس القدرة على تعبئة أفراد الناس والقوى الشعبيّة للدفاع عن بلاد المسلمين ودينهم، كما أنّها تفتح المجال أمام تعامل أكثر اتّزاناً واعتدالاً مع الإرث العظيم الذي خلّفته عاشوراء، بما من شأنه أن يفوّت الفرصة على كلّ عدوٍّ يتربّص بالشيعة ومذهبهم شرّاً. ومن جهةٍ أُخرى، تكون هذه المؤسّسات والتشكيلات تحت نظارةٍ وإشرافٍ مباشرين من قبل مؤسّسة المرجعيّة عند الشيعة. |