السبت 23/11/2024  
 الثورة الفريدة

الثورة الفريدة
أضف تقييـم
لو انتقلنا بفكرنا ووعينا وأحاسيسنا إلى مرحلة كربلاء وواقعها وأهدافها وتساءلنا عن الأسلوب الذي يمكن أن تتخيله كل عقول الدنيا بعبقريتها وتجاربها ليؤدي الغرض ويحقق الهدف هل كنا سنجد أسلوباً يضاهي ثورة كربلاء كما أرادها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجها إلى حيز التحقق سيد الشهداء عليه السلام، بالتأكيد إن الجواب هو النفي.
لكل ثورة أسلوبها الخاص وبحسب الاستقراء فان الأساليب المعتمدة تارة ترتكز على الجماهير بعد ضخ الوعي والحماسة فيها فتكون ثورة شعبية وتارة ترتكز على قوى النفوذ العسكري من داخل النظام أو خارجه فتكون ثورة مسلحة تتأطر فيها القوى المسلحة من قادة عسكريين أو قبائل أو عشائر أو تجمعات تؤمن بهذا الخيار وتارة ثالثة تعتمد على النخب والفكر الجديد الذي تحمله لترسيخ معادلات سياسية وأحياناً منظومة قيم جديدة فتكون ثورة فكرية أو سياسية وتارة رابعة تكون مزيجا بين نمطين أو أكثر وتتداخل فيها عوامل اقتصادية واجتماعية وهكذا... لكن الواقع الذي شهده الإمام الحسين عليه السلام لم يكن متناسبا مع كل هذه الفرضيات وهذا هو المراد من قولنا وصول المجتمع إلى مرحلة الانسداد في خيارات التحريك نحو التغيير مع وصول التردي إلى ما يقرب من النهاية فتحتاج الحركة والثورة إلى إبداع يفوق التصور الطبيعي للأمور وهذا ما لم يكن قادرا عليه إلا من نهل من النبع الصافي وانتمى إلى المعدن النادر الذي اصطفاه الله تعالى وترعرع في حضن النبوة والوحي وانتسب إلى معين الولاية فانجلت أمامه الصورة وانكشفت له الوقائع في حاضرها ومآلها وهذا هو بالتحديد الذي رمت إليه أحاديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في حق الحسين منذ ولادته المباركة إذ استقبله بالدمعة وواكبه بالحنان الفيّاض وحفر في ذاكرة الأمة ووجدانها حب الحسين والتعلق الخاص به تمهيدا لهذا الدور الفريد وبهذا المعنى تصبح الثورة رشحة من رشحات الغيب وفيض من فيوضات السماء لا يطيق حمل عبئها إلا الحسين بن علي عليه السلام، ومن كل هذه المعاني وفي ظلال هذه الرؤية انبثق الأسلوب الكربلائي وانفجرت منه ينابيع ثورة فريدة لم تهتد إليها البشرية قبل سيد الشهداء عليه السلام لتبقى الحجة البالغة قائمة فلا تموت الأمة الإسلامية بعدها ولا تعدم الخيارات في أصعب الظروف وأحلكها.
لم يبدأ الإمام الحسين عليه السلام في تحركه كما هي عادة الثائرين الذي يعلنون البيان الثوري الأول ثم يحشد المؤيدين ويهاجم مواقع السلطة ليطيح بها واحدا بعد الآخر لينهك الخصم ويفقده قدرة السيطرة على البلاد، وإنما بدأ تحركه بإعلان رفض المبايعة بينما كانت تأتيه الأخبار من مختلف المناطق والكتب من الكوفة وكبرائها معلنين له التأييد والنصرة والانتظار فبدت حركته استجابة طبيعية للذين دعوه إلى القيام بينما كان على ثقة تامة بأن الذي ينتظره هو أمر آخر ليحقق في أسلوبه الجمع بين مقتضيات الثورة الموضوعية ومقتضيات العلم اللدني الذي اختصه الله تعالى به وتمكن من صياغة هذا النمط الفريد دون أي إخلال ليجمع كل المعطيات ويوجهها في إطار ثورة تصدم الواقع وتفضح الحاكم وتزيح عن كاهل الأمة آثار السنوات العجاف المليئة بالانحراف والتخاذل عن الدين وقيمه، فإذا كان التاريخ يروي لنا بعض الوقائع والنتائج فان المتيقن إن الإمام الحسين عليه السلام كان يقود ثورة اكتملت عناصر النجاح فيها من حيث الرؤية والطريقة وهذا ما يمكن فهمه من خلال الآتي:
1- إثبات المظلومية التي لحقت به من خلال إصرار يزيد على تحصيل البيعة مهما كلف الأمر وعليه يكون الإمام عليه السلام ملاحقاً ومعتدى عليه من قبل الحاكم المتسلط الذي يريد إخضاعه وإجباره وسلبه حق الاختيار في رفض المبايعة واستمر الأمر على هذا المنوال حين ترك مدينة جده صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً إلى مكة وبعدها لم يتم أعمال الحج ليغادر قاصداً الكوفة، إن هذه الحركة كافية لإثارة أسئلة قاسية حول ما تعرض له الإمام عليه السلام من اضطهاد وظلم من قبل شخص متهتك وفاجر ومتسلط على رقاب المسلمين، كما أنه حين حوصر في أرض الطف ومنع من إكمال المسير إلى الكوفة أو حتى العودة كما منع مع عياله وأصحابه بعدئذٍ من الماء وصولاً إلى كل فصول المأساة لتتأكد المظلومية في أقسى صورها فترسخ في وجدان الأمة والتاريخ حجم الظلم الذي تعرض له ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وربما كان هذا المعنى حاجةً ملحّة لصدم الوجدان من جهة ولكشف حقيقة الحكم الأموي المتعسف.
2- ما معنى ان يخرج الإمام عليه السلام مع أهل بيته من النساء والأطفال مع أنه كان يعلم أن الذي ينتظره المواقف الصعبة والحرجة فإن هذا المشهد يكفي لوحده للتعبير عن الطريقة الخاصة التي أراد الإمام عليه السلام ان يفهمها للجميع وانه ليس في موقع المهاجمة والثورة المسلحة وإلا احتاجت الحركة إلى أسلوب آخر مع ان خروج العيال والخواص معه يشير إلى الاستعداد للتضحية بكل غالٍ في سبيل تحقيق الهدف مضافاً إلى الدور التفصيلي الخاص الذي جسده كل واحد من هؤلاء الأطهار في واقعة كربلاء وبهم جميعاً يكتمل المشهد وتلتئم عناصر الثورة الفريدة.
3- الفداء والتفاني والإيثار كلها قيم انضمت إلى العاطفة والبلاغة والثبات والصبر وكانت تملأ سماء الطف وتزيّن الواقعة والتاريخ بأروع المشاهد الكفيلة بضخ الحياة إلى شرايين الشريعة والأمة لإبقائها يقظةً وأبيةً في مواجهة الظلم في أي عصر وعند كل التحديات.
4- الاستشهاد وهو العنوان الأكثر حضوراً في كربلاء والأكثر شمولاً ليكون من نصيب الطفل الرضيع والفتى والشاب والكهل والرجل والمرأة والأسود والأبيض وبهذا تصبح الشهادة خيار الأحرار دائماً والقدرة على صناعة التغيير ومصدر الإلهام للشعوب التواقة إلى الحرية والعدالة ولتتوج في نهاية الأمر باستشهاد القائد المعصوم الذي تقدم إلى ساحة اللقاء بقلب ملؤه الرضا والتسليم لينصهر مستقبل الأمة الإسلامية والشريعة المحمدية بالدم القاني الممزوج إخلاصاً وحباً وفناءً في العقيدة والمبدأ.
5- التبليغ والإعلام وإقامة الحجة كلها عناصر ما غابت عن كربلاء لحظة واحدة بدءاً من الخطابات القاطعة والمليئة بالحجة والمنطق الذي لم يوفر الإمام الحسين عليه السلام جهداً في سبيل تبيانه كما أن الحوراء زينب عليه السلام لم تقعدها المصيبة على الرغم من شدة قساوتها واستمرت في القيام بهذا الدور على أكمل وجه ليستمر الإمام السجاد عليه السلام بأداء هذه المهمة حزناً دائماً وذكراً مستديماً ومتواصلاً لينمي في الأمة قوة المناعة على مواجهة الانحراف ولفظه وفضحه.
لا أظن أني قادر على إدراك كل العناصر الفاعلة في حركة التغيير التي اعتمدها الإمام الحسين عليه السلام مع الخيرة من أصحابه وأهل بيته إلا ان الواضح في هذا الشأن أن ما قدمته لنا كربلاء من تجربة فريدة بكل أبعادها وقيمها رسخت دعائم النمط الثوري والنهج الكربلائي الذي احتلت الرمزية فيه مكانةً عاليةً ليعبر كل رمز عن أسرار تحتاج إلى توغل في الإيمان والمعرفة والدلالة.
عدد المشـاهدات 153   تاريخ الإضافـة 18/07/2024 - 12:02   آخـر تحديـث 21/11/2024 - 08:06   رقم المحتـوى 25570
 إقرأ أيضاً