الجمعة 22/11/2024  
 من "زيوس" إلى "أبواق أريحا"..لماذا نخاف جدار الصوت؟

من "زيوس" إلى "أبواق أريحا"..لماذا نخاف جدار الصوت؟
أضف تقييـم
للأصوات العالية مكان في الأساطير، وقد استخدمتها الجيوش في معاركها عبر التاريخ. لماذا يخاف بعضنا جدار الصوت وما تأثيراته النفسية؟
منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تاريخ فتح جبهة الإسناد اللبنانية لدعم غزة، تقوم "إسرائيل" بشكل متكرِّر بخرق جدار الصوت في أجواء الجنوب والبقاع شرقاً، وصولاً إلى العاصمة بيروت، باستخدام طائراتها الحربية.
وفيما تُعدّ هذه الممارسات انتهاكاً للسيادة اللبنانية والقوانين الدولية، تنتهج "إسرائيل" هذه الاستراتيجية وسيلة من وسائل الاستعراض العسكري للقوة، هدفه ترويع اللبنانيين وخصوصاً الأطفال، ما يسبب لهم أضراراً نفسية. بالإضافة إلى ذلك، تؤدي هذه الغارات الوهمية المُتكرِّرة إلى تحطيم زجاج المنازل وتشقق الجدران الهشة، وفي بعض الحالات إلى انهيار أسقف البيوت الضعيفة فوق رؤوس قاطنيها. في هذه المادة، سنستعرض معاً التفسير العلمي لجدار الصوت، وسبب الخوف منه، وتاريخ استخدام الجيوش للأصوات العالية في المعارك ومكانة هذا النوع من الأصوات في الأساطير.
لماذا يحدث جدار  الصوت؟ 
الطيار الأميركي تشارلز ييغر
الطيار الأميركي تشارلز ييغر
من الناحية العلمية، تحدث ظاهرة جدار الصوت نتيجة تراكم  موجات الضغط التي يُنتجها جسم متحرك وتداخلها عندما تقترب سرعته من سرعة الصوت. تبلغ سرعة الصوت نحو 1235 كم/ساعة في الهواء عند درجة حرارة 20 درجة مئوية، مع ملاحظة أن هذه السرعة تتغيّر مع تغير درجة الحرارة والضغط الجوي.
فعندما يتحرك الجسم بسرعة عادية، تنتشر موجات الضغط أمامه وتتلاشى بسهولة. لكن، كلّما اقترب من سرعة الصوت، تبدأ هذه الموجات بالتراكم والتداخل حتى تُشكِّل حاجزاً من الضغط المرتفع أمامه يُعرف باسم "جدار الصوت". إنّ اختراق هذا الحاجز يتطلّب قوّة كبيرة تؤدي إلى تكوّن موجة صدمة تأخذ شكلاً مخروطياً يُعرف بمخروط ماخ، نسبة إلى العالم الفيزيائي إرنست ماخ. هذه الموجة الصدمية تُنتج الضجيج العالي والاهتزازات الشديدة المعروفة بالانفجار الصوتي (Sonic Boom).
في الماضي، كان الطيارون يعتقدون باستحالة خرق جدار الصوت وأن طائراتهم ستتفتّت لو تجاوزت هذه السرعة الهائلة. أمّا أول من كسر حاجز (جدار) الصوت فكان الطيار الأميركي تشارلز ييغر عام 1947 مستخدماً طائرته "بيل إكس - 1" في إطار عمله العسكري في قاعدة موروك الجوية في كاليفورنيا، وذلك ضمن مشروع "إكس إس-1" السري، والذي كان يهدف للطيران بسرعة تعادل سرعة الصوت.
كان هذا الإنجاز نقطة تحوّل في تاريخ الطيران. إذ فتح الباب أمام تطوير طائرات أسرع وأكثر تقدماً. منذ ذلك الحين، تم تصميم العديد من الطائرات العسكرية والمدنية القادرة على الطيران بسرعات فوق صوتية، مثل الكونكورد التي كانت تنقل الركاب بسرعة تفوق سرعة الصوت.
لقد شكّل تجاوز جدار الصوت تحديّاً كبيراً في تصميم الطائرات، حيث بات يتطلب هيكلاً قوياً قادراً على تحمل الضغوط الهائلة، ومحركات قوية جداً. كما أن الطيران بسرعات فوق صوتية يستهلك كميات كبيرة من الوقود، ما يجعله مكلفاً من الناحية الاقتصادية والبيئية.
لماذا يخيفنا جدار الصوت؟ 
لماذا يشعر بعضنا بالخوف وربما بالذعر عند سماع جدار الصوت؟ السبب في ذلك أنّ نظامنا السمعي البشري مرتبط مباشرة بالجهاز الحوفي في الدماغ (limbic system)، وهو المسؤول عن استجاباتنا السلوكية والعاطفية، خاصة تلك المتعلقة بالسلوكيات التي نحتاجها للبقاء، مثل التغذية والتكاثر، وتلبية نداء القتال أو الهروب، أو ما يسمى بعملية الكر والفر.
إن الصوت المفاجئ والقوي يشكّل عملية إنذار أولية للمخيخ، وذلك قبل أن تتمكّن القشرة المخية (المسؤولة عن التفكير الواعي) من تحليل الوضع. هذا الرد العاطفي البدائي يتضمن تحفيز اللوزة الدماغية (amygdala)، التي ستعدّ الدويّ الهائل تهديداً وجودياً. تعمل هذه الاستجابة على زيادة إنتاج هورمونات ونواقل عصبية مثل الأدرينالين، ما يُؤدي إلى الأعراض الجسدية للخوف: رفع معدل ضربات القلب، توتر العضلات، والتعرق البارد. لذلك، يستعد الجسم بشكل غريزي للهروب أو القتال.
هذه الاستجابة اللإرادية قد تتفاقم لدى بعض الأشخاص لتصل إلى حدّ الرهاب من الأصوات العالية، وهو ما يُعرف بالفونوفوبيا، ما قد يؤدي إلى ردود فعل مبالغ فيها عند سماع صوت اختراق جدار الصوت. لذلك، من المهم تطوير استراتيجيات للتعامل مع هذه الاستجابات، مثل تقنيات الاسترخاء والتنفس العميق، والتي يمكن أن تساعد في تهدئة الجهاز العصبي وتقليل الاستجابة الفيزيولوجية للخوف.
هناك عوامل عدة أيضاً قد تزيد من حدة هذه الاستجابة البيولوجية وتشمل التعرُّض المتكرِّر للأصوات العالية، خاصة في سياق الصراعات والحروب، أو معاناة الشخص مسبقاً من اضطرابات القلق المزمن. كما أن الأشخاص المصابين بالتوحُّد قد يكونون أكثر حساسية لهذه الأصوات بسبب فرط الحساسية التي غالباً ما تصاحب اضطراب طيف التوحُّد. من الناحية الفيزيولوجية، يمكن أن يؤدي التعرض المتكرر للانفجارات الصوتية إلى مشكلات في السمع. فالضوضاء الشديدة يمكن أن تؤدي إلى تلف الخلايا الشعرية في الأذن الداخلية، الأمر الذي يسبب فقدان السمع التدريجي أو طنين الأذن.
"أبواق أريحا" .. كيف تخيف أعداءك بالأصوات المرتفعة؟  
"إسرائيل" رغم صلافتها، لم تكن الأولى التي استخدمت الأصوات المخيفة كاستراتيجية عسكرية. ذلك أن اللجوء إلى الصوت العالي لترهيب الخصوم له جذور عميقة في التاريخ، وقد اعتمدته العديد من الحضارات على مرّ العصور.
فقد كان الصينيون القدماء، وفقاً لكتاب "فن الحرب" لصن تزو، من أوائل الشعوب التي استخدمت الطبول والأبواق لإحداث ضوضاء مرعبة تُربك الأعداء وتُضعف معنوياتهم. كما استخدم اليونانيون والرومان تقنيات مشابهة.
أما في الحضارة اليونانية، فكان المحاربون يغنون نشيد "Paean"، وهي أغنية حربية، بصوت عالٍ قبل المعركة لرفع معنويات الجنود وإرهاب العدو.
من ناحية أخرى، استخدم الرومان آلة موسيقية تسمى "القرن"، وهي عبارة عن بوق كبير على شكل حرف G، لإصدار أصوات عالية أثناء المعارك. كما استخدموا صيحات جماعية منظمة تسمى "باريتوس" لبث الرعب في قلوب أعدائهم.
وكذلك أيضاً، اعتمدت القبائل الأصلية في أميركا الشمالية الصيحات العالية لإضعاف معنويات الخصوم، كما يذكر أس سي غوين في كتابه  "إمبراطوية قمر الصيف". كانت هذه الصرخات، المعروفة باسم "صرخات الحرب"، جزءاً مهماً من التكتيكات الحربية للعديد من القبائل الأميركية. على سبيل المثال، عرفت قبائل الأباتشي بصراخها المرعب الذي كانت تطلقه قبل وأثناء الهجوم.
أما في الحروب الحديثة فقد استُخدمت الأصوات العالية والتكنولوجيا المتقدّمة لتوليد ضوضاء مرعبة، مثل صفارات الإنذار التي عرفت باسم "أبواق أريحا" (Jericho-Trompete)، تيمُناً بقصة سقوط أسوار أريحا في "الكتاب المقدس". كانت هذه الصفارات مثبتة على الجناحين الأماميين لقاذفات القنابل الألمانية من طراز "شتوكا" خلال الحرب العالمية الثانية، وكان يتمّ تشغيلها بواسطة مروحة صغيرة تدور بفعل الرياح أثناء انقضاض الطائرة، فتنتج صوتاً عالياً ومرعباً يشبه الصراخ، يزداد حدة مع اقتراب الطائرة من الأرض، ليصل إلى مستوى 105-110 ديسيبل.
وكان الهدف الرئيسي منها إثارة الذعر والخوف بين القوات المعادية والمدنيين، وقد نجحت في بناء سمعة مخيفة لقاذفات "شتوكا"، خاصة في بداية الحرب. لكن مع تقدم سير المعارك، تمّ التخلي عنها تدريجياً لتأثيرها في أداء الطائرة وفقدانها عنصر المفاجأة. أصبحت هذه الأبواق رمزاً للحرب النفسية وتكتيكات الترهيب في الحرب الحديثة، وألهمت تطوير أسلحة صوتية أخرى في الحروب اللاحقة.
ظهرت هذه القاذفات في العديد من الأفلام والوثائقيات عن الحرب العالمية الثانية، لتُصبح جزءاً من الذاكرة الجماعية للحرب، خاصة في أوروبا.
أما في فيتنام، فقد استخدمت القوات الأميركية تكتيكاً يُعرف باسم "أصوات وأضواء"، ويعتمد على إطلاق نيران المدافع بشكل عشوائي أثناء الليل مسببة دويّاً مخيفاً، وذلك لإبقاء قوات العدو في حالة من التوتر والقلق المستمر.
مع التقدم التقني في الصناعات العسكرية شهد العالم استخداماً للأسلحة الصوتية المتطورة. على سبيل المثال، يستخدم الجهاز الصوتي بعيد المدى (LRAD) موجات صوتية عالية الكثافة لتفريق الحشود أو صد الهجمات. كما تم تطوير أنظمة صوتية خاصة لمكافحة القرصنة البحرية، وذلك باستخدام أصوات عالية الكثافة لمنع المهاجمين من الاقتراب من السفن.
هكذا يمكن اعتبار استخدام كسر حاجز الصوت في غزة ولبنان اليوم، امتداداً لتاريخ طويل من استخدام الصوت كسلاح نفسي. ومع ذلك، فإن اللجوء إلى هذه التقنيات يثير تساؤلات أخلاقية وقانونية، خاصة عندما تستخدم ضد المدنيين، وهو ما يمكن اعتباره انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي.
من زيوس إلى إنليل.. الأصوات الحادة والمخيفة في الأساطير   
"زيوس" إله السماء في الميثولوجيا اليونانية
عندما تخترق الطائرات الإسرائيلية جدار الصوت في محاولة لترهيب المدنيين، فإن ذلك يُذكرنا بأساطير قديمة تُجسّد طموح البشر لتجاوز الحدود الإنسانية، حتى ولو أدى ذلك إلى هلاكهم.
فمثلاً، تستدعي هذه الطائرات أسطورة "إيكاروس المتهور" الذي طار بجناحين من الريش والشمع وحلّق عالياً جداً في السماء، لكنه سقط في البحر بعدما ذاب جناحاه من حرارة الشمس. أمّا الدويّ المزلزل الذي تُحدثه هذه الطائرات عند اختراقها لحاجز الصوت، فيجعلنا نسترجع أساطير تتعلق بآلهة الرعد والبرق.
ففي الميثولوجيا اليونانية، كان "زيوس" إله السماء يستخدم صوت الرعد المخيف ولمعة البرق للتعبير عن غضبه وقوته. ثم في الميثولوجيا الإسكندنافية، حيث كان الإله "ثور" يلجأ إلى مطرقته السحرية "ميولنير" التي تُعدّ من أشدّ الأسلحة النوردية وأقواها لتسوية الجبال وإطلاق الرعد. كما يمكن أن يذكِّرنا هذا الدويّ الهائل الذي تفتعله الطائرات بصرخة الروح الأنثوية "البانشي" في الأساطير الإيرلندية، حيث كان صوت هذه الجنيّة الحاد والمرعب يُعدّ علامة على اقتراب الموت، ما يجعل رؤيتها أو سماعها مروّعاً للغاية.
ولا تنتهي الأمثلة هنا. ففي الأساطير اليابانية أيضاً، يُذكرنا الدوي الهائل بالأرواح الشيطانية البشعة المعروفة بـ"أوني"، والتي كانت تُصدر أصواتاً عميقة وفظيعة في إشارة إلى اقتراب الكوارث والأمور التعيسة غير السارة. كانت هذه الأصوات غالباً ما تترافق مع عواصف ورياح قوية، ما يزيد من تأثيرها المرعب.
أما في الأساطير السومرية، فيُذكّرنا خرق جدار الصوت بحكاية الإله "إنليل" الذي كان يتحكم بالرياح والعواصف، وكان عويل الرياح العاتية دليلاً على غضبه وعقابه للبشر. ثم في الميثولوجيا الهندية، حيث تُجسد أصوات الرعد والبرق عظمة وهيبة الإله "إندرا" المعروف بمفجر السحاب.  وغالباً ما يتم تصوير إندرا وهو يحمل سلاح الصاعقة (فاجرا) ويركب عربة تجرها الخيول أو الفيل الأبيض إيرافاتا.
هكذا نرى أن جميع هذه الأساطير تبرز أهمية الصوت كأداة نفسية لخلق الرعب والارتباك في نفوس الأعداء، وتذكيرهم بضعفهم أمام هذه القوى الهائلة، واستغلال هواجسهم ومخاوفهم الإنسانية الطبيعية في محاولة لإخضاعهم.
الآثار النفسية للصوت العالي
(سمر أبو العوف)
تتعدّد الآثار النفسية الناتجة من اختراق حاجز الصوت والضوضاء العالية المرافقة له، وتشمل التوتر والقلق واضطرابات النوم وصعوبات التركيز وتدهور الأداء المعرفي.
يمكن أن يؤدي التعرُّض المتكرّر لهذه الأصوات إلى زيادة مشاعر الإحباط والعدوانية، وفي حالات الحرب أو النزاع، يمكن أن يُسهم في تطور حالة مرضية تُعرف بــ "اضطراب ما بعد الصدمة" (PTSD)، وهو ما يحدث عندما تستمر ذكريات حدث مزعج للغاية في العودة مراراً وتكراراً لغزو أفكارنا. والأطفال، على وجه الخصوص، هم الأكثر عرضة للتأثيرات النفسية السلبية للضوضاء العالية.
في العام 2015، أُجريت دراسة مهمة في هذا المجال على سكان قطاع غزة ونُشرت في مجلة (British Journal of Education, Society & Behavioural Science)، أشارت إلى أن التعرض المتكرر للغارات الجوية والأصوات العالية المصاحبة ارتبط بزيادة أعراض اضطراب ما بعد الصدمة. وكشفت الدراسة أن 54% من المشاركين أظهروا أعراضاً تتوافق مع تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة، مع ارتباط قوي بين شدّة التعرض للصدمات (بما في ذلك الأصوات العالية) وقوة ظهور الأعراض.
وتقول دراسات أخرى إن التعرُّض المزمن للضوضاء يرتبط بزيادة إفراز هرمونات التوتر مثل الكورتيزول. وأظهر باحثون أنّ الأشخاص الذين يعيشون في مناطق ذات مستويات ضوضاء عالية لديهم مستويات أعلى من الكورتيزول الصباحي مقارنة بأولئك الذين يعيشون في مناطق هادئة. علماً أنّ ارتفاع مستوى الكورتيزول يؤدي إلى اضطرابات النوم والأرق وارتفاع ضغط الدم، بالاضافة إلى زيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والسكري.
هكذا إذاً، ليس اختراق جدار الصوت مجرد إزعاج عابر، بل يمكن أن تكون تأثيراته النفسية عميقة ودائمة، لكن المقاومة اللبنانية التي أسقطت المسيرات الإسرائيلية، دفاعاً عن البلاد والعباد، ربما يكون لديها حل لعنجهية الاحتلال الجوية يظهر في الوقت المناسب.   
عدد المشـاهدات 208   تاريخ الإضافـة 07/07/2024 - 12:07   آخـر تحديـث 20/11/2024 - 15:50   رقم المحتـوى 25488
 إقرأ أيضاً