"اللعنة على كلّ الآباء إذا كانوا مثل أبي".. كيف يحضر الآباء في نتاج أبنائهم الأدباء "علاقة الأب بابنه علاقة غامضة على الرغم من وضوحها السطحيّ. أحياناً يتدفق منها الحنان وأحياناً تتجمد بالقسوة، عَرَجي هذا الذي تراه ما هو إلا عاهة صنعها أبي في ساعة غضب، أمّا أخلاق الرجل الحقيقية فتُقيَّم على ضوء علاقته بالآخرين"، من رواية "قلب الليل" لنجيب محفوظ، 1975. يتذكر القراء العرب الكاتب الأميركي بول أوستر في أكثر أعماله خصوصية، أي "اختراع العزلة" الذي تُرجم عام 2017. وفاة صاحب "ثلاثية نيويورك" يوم 30 نيسان/أبريل 2024، أعاد إلى أذهان القراء مسألة حضور الأب في الأدب، لا كشخصية تخييلية فحسب، بل كشخصية من لحم ودم، أي الأب للكاتب نفسه. يقدّم عبد الله السفر كتاب أوستر بمقدمة عنوانها "القبض على أفق الأب"، ويريد من خلالها القول إنّ أوستر أراد عن طريق كتابه هذا أن ينقّي أبوة أبيه من الأخطاء ويبرئه منها، بينما يترك مترجم الكتاب أحمد العلي مقدمة أخرى تحمل عنوان "فضح العائلة"، يقول فيها إنّ الأجلّ من الكتابة عن الأب هو اختراعه من جديد، ويذكر كيف عدّت عائلة أوستر كتابه هذا فضيحة لها، وتصريحاتها للجرائد بأنّ الابن يكذب، ويخترع كل ما في الكتاب. يتصل كل ما سبق بإجماع معظم الأبحاث التي تحاول الوقوف على حضور الأب في الأدب على أنّ الأب، كمقولة وموضوع وظل وشبح، مفتاحٌ أساسي لفهم كثير من العلاقات النصية في الأعمال الأدبية. على أننا نحاول الوقوف هنا على العلاقة الواقعية بين الكاتب/الابن، وأبيه، وحجم الأثر الذي يمكن أن تتركه مثل هذه العلاقة في المُنجَز الأدبي للأبناء الكتّاب. حضرة المتهم أبي حضور الأب في أعمال فرانز كافكا يتجاوز الشخصية التخييلية، بل إنّ الأب هنا، بسطوة حضوره في عالم الكاتب الواقعي، ينعكس كظلٍّ أو شبح في أعماله الأدبية، ليتخلص منه. سواء في قصة "الحكم" التي تتناول استبداد والد "غيورغ بنديمان" الذي سينتحر غرقاً بسبب علاقته بأبيه، أو في "التحول" وشخصية "غريغور سامسا"، وكلتا الشخصيتين ترمز إلى كافكا نفسه. في واحدة من الدراسات الكثيرة للتحول للسوسيولوجي الفرنسي برنار لاهير، ويدرسها منطلقاً مما كان يعيشه كافكا نفسه في أثناء الكتابة، وقد غضب أبوه من أسلوب عيشه فنعته بـ "الطفيلية" (مفرد الطفيليات)، أي الحشرات التي تعتاش عادةً من أجساد حية، ممتصة دماءها. أخذ كافكا استعارة "الطفيليات" هذه، وطبّقها على غريغور سامسا، الذي هو نفسه. لكنّ حضور الأب عند كافكا يأخذ بعداً آخر، غير مصبوغ بطبيعة عالم أدبي، وذلك في يومياته بين عامي 1910 و1923، التي حررها ماكس برود. يبدو الأب في اليوميات غريباً وكريهاً وخشناً، وثمة انفصال وجداني رهيب بينه وبين ابنه. وعبّر كافكا عن هذه العلاقة تماماً في "رسالة إلى الوالد" عام 1919، موجهاً إليه الاتهام على "الإساءة العاطفية" والسلوك والنفاق الذي أبداه تجاهه وعامله به. على أنّ الرسالة لم تصل أبداً إلى "الوالد"، إذ وفقاً لصديق كافكا، ماكس برود، سلّم كافكا الرسالة إلى أمه كي تعطيها لأبيه، لكنها أعادتها إلى ابنها، الذي أعاد كتابتها على الآلة الكتابة وصححها يدوياً. ومما يقوله كافكا لأبيه في الرسالة، ويؤكد أثره في كل أعماله الأدبية: "أنت خلقت كل كتاباتي، لقد قلت فيها ما لا أستطيع قوله، وأنا على صدرك". ويتحدث الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، في كتابه "واقعية بلا ضفاف"، كيف أغرت "رسالة إلى الأب/الوالد" اختصاصيي التحليل النفسي، واعتقدوا أنهم وجدوا في شخصية كافكا نموذجاً مثالياً عن عقدة أوديب. "الخبز الحافي" و"بقايا صور" "بدا لي مثل عملاق يتحكم في الأقزام. نحن كنا أغنامه، يستطيع أن يبدأ بذبح من يشاء". في الكتاب الأول من سيرته الذاتية التي وضعها في 3 أجزاء "الخبز الحافي"، و"زمن الأخطاء"، و"وجوه"، يسرد الكاتب المغربي، محمد شكري، سيرته التي أمضاها وسط أسرة كان دور الأب فيها ظالماً وقاسياً، يتعاطى السعوط ويسب الإله. كل هذا العنف الذي كبر الابن معه، كان يمكن أن يؤدي إلى نتيجة واحدة هي تدميره روحياً وقيمياً وأخلاقياً، ويجعله رافضاً سلبياً لنظام الأسرة التقليدي، الذي يتموضع الأب في قمته. يسعى شكري لتدمير مكانة الأب الرمزية، وتحطيم سلطته التي تُعَدّ سبب شقائه، وكثيراً ما شعر بعدم الرضا بسبب ضحكات أمهِ مع أبيه، إلى حد قوله: "اللعنة على كل الآباء إذا كانوا مثل أبي"، "أكره الناس الذين يشبهون أبي". هذا الكره دفعه إلى إبدال مجتمعه الذكوري بآخر نسوي، وولّد لديه نزعة عنيفة وانتقامية: "في الخيال لا أذكر كم مرة أقتله"، ثم حين يضرب والده أمامه يكون هذا المشهد مصدر عزاء له. مثل محمد شكري، ترك الكاتب السوري حنا مينه سيرته الذاتية في 3 أجزاء، هي "بقايا صور"، و"المستنقع"، و"القطاف"، ثم في روايته الأخيرة "أشياء من ذكريات طفولتي". ولا تتباين صورة الأب هنا عما هي عليه عند شكري، على أنها هنا ربما تكون أقل عنفاً على الصعيد الجسماني، أو لا تصل إلى حدّ أن يقتل واحداً من أبنائه، لكنّ القسوة هي نفسها التي يذكرها مينه عبر قوله: "باع والدي في البدء عاماً من طفولة شقيقتي الكبرى، باع بعدها عاماً من طفولة شقيقي الأصغر، وسيبيع، حينما تكبر شقيقتي الصغرى، عاماً من طفولتها أيضاً". صور أخرى ليست هذه العلاقة السلبية هي الوحيدة بين الكتّاب وآبائهم. ثمة صور إيجابية، بلا شك، أبرزها الصور التي يتركها الروائي التركي أورهان باموك، ولاسيما في خطابه بعد حصوله على جائزة نوبل في الآداب عام 2006، وكان خطابه مخصصاً تقريباً للحديث عن أبيه وأثره في مسيرته الأدبية، وأيضاً بشأن الاشتغال الترجمي والأدبي لوالده نفسه. ومما جاء في الخطاب: "ذات يوم، أهداني والدي حقيبة صغيرة تتوسّطها مجموعةٌ ثمينةٌ من الكتب والمذكّرات الخاصّة به، والتي لم ترَ نورها. بسخرية شفّافةٍ غير جارحةٍ، قال لي: "أُريدُكَ أن تقرأها بهدوء يا ولدي"... أما الجانب الآخر ربّما هو الخوف من المعرفة، من القوّة والعظمة الكبيرة التي يمتلكها أبي في الكتابة". في الطرف الآخر، ثمة كتب كثيرة وضعها أبناء لكتّاب كبار، أبرزها: "أبي نجيب محفوظ" لابنة نجيب محفوظ، أم كلثوم، وكذلك "أبي شوقي" لابن الشاعر أحمد شوقي، حسين، وأيضاً "أبي طه حسين" لابن عميد الأدب العربي، مؤنس، وكتاب حسين أحمد أمين عن أبيه "في بيت أحمد أمين"، وكتاب نوارة نجم "وإنت السبب يابا.. الفاجومي وأنا"، عن والدها الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم. |