كان الإمام الرضا (عليه السلام) يحثّ أصحابه على الاستعداد لاستقبال شهر رمضان مِن آخر جمعة في شهر شعبان، وينصحهم، ويأمرهم بالتزكية البدنيّة والنفسيّة والروحيّة والتركيز على المهمّ وتقديم الأولويّات، حتّى يُقبِل الشهر عليهم وهم مُخلصون لله تعالى. ويُعدُّ حديثه حول ذلكَ برنامجاً متكاملاً للاستعداد لِشهر رمضان، فقد رَوَى أَبُو اَلصَلْتِ اَلْهَرَوِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى اَلرِضَا (عليه السلام) فِي آخِرِ جُمُعَةٍ مِنْ شَعْبَانَ، فَقَالَ (عليه السلام): «يَا أَبَا اَلصَلْت، إِنَّ شَعْبَانَ قَدْ مَضَى أَكْثَرُهُ، وَهَذَا آخِرُ جُمُعَةٍ فِيهِ، فَتَدَارَكْ فِي مَا بَقِيَ مِنْهُ تَقْصِيرَكَ فِي مَا مَضَى مِنْهُ، وَعَلَيْكَ بِالْإِقْبَالِ عَلَى مَا يَعْنِيكَ، وَأَكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَتُبْ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكَ لِيُقْبِلَ شَهْرُ اللَّهِ إِلَيْكَ وَأَنْتَ مُخْلِصٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا تَدَعَنَّ أَمَانَةً فِي عُنُقِكَ إِلَّا أَدَّيْتَهَا، وَلَا فِي قَلْبِكَ حِقْداً عَلَى مُؤْمِنٍ إِلَّا نَزَعْتَهُ، وَلَا ذَنْباً أَنْتَ مُرْتَكِبُهُ إِلَّا قَلَعْتَ عَنْهُ، وَاتَّقِ اللَّهَ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِهِ، ﴿وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡء قَدۡرا﴾[2]»[3].
إقبال الإنسان على ما يَعنيه قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ»[4]؛ أي ما لا يهمّه ولا يفيده في دينه وَدُنياه. والضابط في معرفة ما يعني الإنسان ممّا لا يعنيه هو الشرع، لا الهوى. فقد يحلو للكثير مِن الناس تَرْك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاهتمام بشؤون المسلمين، بِدعوى أنّه تدخُّلٌ في خصوصيّات الآخرين، وهو ممّا لا يعني الإنسان، والحقيقةُ أنّه مِن أبرز مَصاديق ما ينبغي أن يعتني به المرء تجاه المسلمين، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأُمُورِ اَلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ بِمُسْلِم»[5].
الإكثار من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن إنّ شهر رمضان شهرُ الدعاء؛ لذا لا بُدّ مِن التركيز فيه على الأدعية، خاصّة تلك المرويّة عن أهل البيت (عليهم السلام)، كدعاء الافتتاح والبهاء ودعاء أبي حمزة وغيرها. ولا بدّ من الاستغفار، لأنّه يُنجي مِن القيود والسلاسل والغِلّ، ويجلي صدأ القلوب النورانيّة ويُطهّرها. والاستغفار يعني طلب المغفرة والعفو الإلهيّ عن الذنوب، فإذا تمَّ بشكلٍ صحيحٍ انفتح باب البركات الإلهيّة في وجه الإنسان؛ فالذنوب مرض يحتاج علاجاً، هُو الاستغفار. وقد ذَكرَت آياتٌ قرآنيّة عديدة أنّ للاستغفار فوائد دنيويّة وأخرويّة[6]؛ قَالَ النبيّ (صلى الله عليه وآله): «ألاَ أُخْبِرُكُمْ بِدَائِكُمْ مِنْ دَوَائِكُمْ؟»، قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُولَ اَللَّهِ. قَالَ: «دَاؤُكُمُ اَلذُنُوبُ، وَدَوَاؤُكُمُ اَلاِسْتِغْفَار»[7]. وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «تَعَطَّرُوا بِالاِسْتِغْفَارِ، لاَ تَفْضَحكُمْ رَوَائِحُ اَلذنُوب»[8]، فَلِلذنب رائحة كريهة تحتاج مُعطِّراً، هو الاستغفار واللجوء إلى الله تعالى وعفوِه ومغفرته.
التوبة إلى الله التوبة هي الندم على المعصية، والعزم على تَرك المعاودة إليها، وهي واجبة وجوباً فوريّاً على كلّ مُكلّف. وقد وردَت في القرآن الكريم والسُنّة الشريفة، مع الشروط التي لا بُدَّ مِن توفّرها لِتَصحّ مِن العَبد، وَمِنها: 1. الندم على ما صدرَ مِن معصية[9]. 2. العزم على عدم العَود في المستقبل إلى الذنب[10]. 3. الاستغفار[11]. 4. الخروج مِن تبعات الذنوب، فَإنْ تعلّق بالمعصيةِ حَقٌّ للّه تعالى أو للناس، يجب أداء هذا الحقّ لتتحقّق التوبة وتصحّ[12]؛ سواء أكان مالاً أو جنايةً أو حقّاً أخلاقيّاً [13].
أداء الأمانة تُعدُّ الأمانة مِن أهمّ الفضائل الأخلاقيّة والقِيَم الإسلاميّة والإنسانيّة التي حَثَّ عليها الإسلام، فهي رأس مال المجتمع الإنسانيّ والسبب في شَدّ أواصر المجتمع وتقوية الروابط بين الناس؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرا﴾[14]، وقال النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله): «لا إِيمانَ لِمَنْ لا أَمانَةَ لَهُ»[15]، وعن الإمام الصَادق (عليه السلام): «إنّ الله عَزَّ وَجَلَّ لَم يَبعَثً نَبِيّاً إلّا بِصِدقِ الحِدِيثِ وَأَداءِ الأَمانَةِ إِلى البرِّ وَالفاجِر»[16].
نَزع الغلّ والحقد مِن القلب الغِلُّ بِكَسرِ الغَينِ الحِقد، وبِضَمِّها القَيْد؛ يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الغِلُّ داءُ القُلوب»[17]، و«مَنْ خَلاَ عَنِ الْغِلِّ قَلْبُهُ، رَضِيَ عَنْهُ رَبُّه»[18]. إنّ شهر رمضان أجمل فُرصة لِنَزع الغلّ والبُغض والأحقاد مِن النفوس، وفَتْح صفحة جديدة، والتخلُّص مِن الشوائب في القلوب. لذا، ينبغي أن يستقبل الصائم الشهر المبارك بالصفح والتسامح والتغاضي عن المعايِب وَطيّ صفحة الماضي وتَرك التشفّي.
ترك الذنوب لا بُدّ مِن أن الالتفات إلى خطورة الذنوب في المسيرة التكامليّة للإنسان، لأنّ أبوابَ ما يحتاجه الفرد البشريّ والمجتمع الإنسانيّ -مِن ألطاف إلهيّة وتفضّلات ورحمة ونورانيّة وهداية إلهيّة وتوفيق وعَوْن على الأمور ونجاح في الساحات المختلفة- تنغلق بِسبب الذنوب التي يرتكبها، فتصبح حجاباً بينه وبين الرحمة والتفضّل الإلهيّ.
التقوى والتوكّل على الله تحفظُ تقوى الله الناسَ مِن السقوط في المعصية، فَإذا وقى الإنسان نفسه بالتقوى، فَلا سبيل للشيطان إلى نفسه، ولا سلطان للأهواء والفتن عليه؛ يقول الإمام عليّ (عليه السلام): «التقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ، وَاَلْفُجُور دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ، لاَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ وَلاَ يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ. أَلاَ وَبِالتَقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ اَلْخَطَايَا، وَبِالْيَقِينِ تُدْرَكُ اَلْغَايَةُ اَلْقُصْوَى»[19].
وعن الإمام الرضا (عليه السلام): «وَأَكْثِرْ مِنْ أَنْ تَقُولَ فِي مَا بَقِيَ مِنْ هَذَا اَلشَهْرِ: اللَّهُمَّ إِنْ لَمْ تَكُنْ غَفَرْتَ لَنَا فِي مَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ، فَاغْفِرْ لَنَا فِي مَا بَقِيَ مِنْهُ، فَإِنَّ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يعْتِقُ فِي هَذَا اَلشَهْرِ رِقَاباً مِنَ اَلنَارِ لِحُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ»[20].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص93. [2] سورة الطلاق، الآية 3. [3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج94، ص72. [4] المصدر نفسه، ج1، ص216. [5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص164. [6] الإمام الخامنئيّ (دام ظله)، أخلاق ومعنويّت (فارسي)، مؤسّسة فرهنكي قدر ولايت، إيران - طهران، ط1، ص163. [7] الشعيريّ، محمّد بن محمّد، جامع الأخبار، المطبعة الحيدريّة، العراق - النجف، لا.ت، ط1، ص57. [8] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج6، ص22. [9] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، المبسوط، تصحيح وتعليق السيّد محمّد تقي الكشفيّ، المكتبة المرتضويّة لإحياء آثار الجعفريّة، لا.م، 1387ه، لا.ط، ج5، ص538. [10] النجفيّ، الشيخ محمّد حسن، جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام، تحقيق وتعليق الشيخ عباس القوچانيّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1365ش، ط2، ج41، ص111. [11] الأنصاريّ، الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين، رسائل فقهيّة، تحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، مجمع الفكر الإسلاميّ، إيران - قمّ، 1414ه، ط1، ص56. [12] السبزواريّ، السيّد عبد الأعلى، مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، مكتب آية الله العظمى السيّد السبزواريّ، لا.م، 1413ه، ط4، ج3، ص350. [13] السبزواريّ، السيّد عبد الأعلى، مواهب الرحمان في تفسير القرآن، مؤسّسة أهل البيت (عليهم السلام)، لبنان - بيروت، 1409ه، ط2، ج2، ص280. [14] سورة البقرة، الآية 283. [15] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج69، ص198. [16] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص104. [17] الليثيّ الواسطيّ، الشيخ كافي الدين عليّ بن محمد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسينيّ البيرجنديّ، دار الحديث، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص32. [18] المصدر نفسه، ص640. [19] الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387هـ - 1967م، ط1، ص221، الخطبة 157. [20] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، تصحيح الشيخ حسين الأعلميّ، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1404هـ - 1984م، لا.ط، ج2، ص56 |