يقول تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾1.
عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): "إنَّ لربِّكم في أيّام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها"2.
من نفحات الله تعالى أنّه فتحَ أبواب رحمته في أزمنة خاصة منها شهر شعبان الذي ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ علّة تسميته شعبان هي تشعّب الخيرات فيه، وأنَّ الله تعالى "قد فتح فيه أبواب جنانه، وعرض عليكم قصورها وخيراتها بأرخص الأثمان وأسهل الأمور فاشتروها"3.
وقد نسب رسول الله (صلى الله عليه وآله) شهر شعبان إليه وأبدى اهتمامه الشديد به، فقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله إذا رأى هلال شعبان أمر منادياً في المدينة: "يا أهل يثرب، إني رسول الله إليكم ، ألا إنّ شعبان شهري فرحم الله من أعانني على شهري"4.
إنّ كلمة أعانني لافتة، فماذا تعني معونة النبي (صلى الله عليه وآله)؟
ويزداد السؤال أهمية حينما نلتفت إلى أن من يعين النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقع في دائرة الرحمة الإلهية الحتميَّة؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مستجاب الدعاء حتماً وهو (صلى الله عليه وآله) يترحّم على من أعانه.
إن لغة أعانني هي لغة عاطفية، فمن الواضح أن الأمر لا يرتبط بحاجة النبي (صلى الله عليه وآله)، بل ينطلق من الحرص النبويّ على مستقبل المؤمنين ونجاح مسيرتهم الإيمانية، والذي انعكس في شعور رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالهمّ، بل انعكس ذلك في مظهره حتى قال له بعض أصحابه: "أسرع فيك الشيب، فأجاب (صلى الله عليه وآله): شيبتني سورة هود"5.
والسبب في ذلك هو آية وردت في هذه السورة، وهي قوله عزّ وجلّ: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"6.
والذي شيّب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما ورد في تفسير ذلك ليس أمر الله تعالى له (صلى الله عليه وآله) "فَاسْتَقِمْ" وهو المستقيم قبل نبوّته، بل لتعقيب الله تعالى ذلك بقوله: "وَمَن تَابَ مَعَكَ".
وقد ورد عن ابن عباس: "ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله في جميع القرآن آية كانت أشدّ، ولا أشقّ عليه من هذه الآية"7.
إذاً إنّ إعانة النبيّ (صلى الله عليه وآله) تتحقق من خلال الاستقامة وعدم الطغيان والخروج عن الجادة، وهذا ما يمكن لنا أن نتلمّس خلفيّته وعناوينه الأساسية من كلمة لأمير المؤمنين (عليه السلام) "ألا وإن لكلّ مأموم إماماً يقتدى به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفَّه وسداد"8.
يُفهم من هذا الحديث أمران:
الأول: إن الإعانة الواردة ترتبط بعلاقة المأموم بالإمام، وبعبارة أخرى أنّها تتعلّق بالهوية والانتساب إلى الإمام، وبالتالي فإنّ الاستقامة تتعدّى مفعولها الخاص في الفرد إلى مفعول آخر يتعلّق بالهويّة والجاذبية الإيجابية أو السلبية إليها.
الثاني: إن الإعانة تتحقّق من خلال عناوين أربعة هي:
1- الورع الذي له مراتب أدناها الكفّ عمّا حرّم الله تعالى.
ولعلّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ابتدأ بذكر الورع، لأنّه الركيزة الأولى والسبب الأهم في كمال الإنسان، بل هو أفضل الأعمال التي سأل عنها أمير المؤمنين (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بعد أن تحدّث رسول الله صلوات الله عليه وآله عن الثواب الجزيل لأعمال شهر رمضان، إذ بادر أمير المؤمنين (عليه السلام) ليسأل النبيّ (صلى الله عليه وآله) على قاعدة البحث عن الأولى: "ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فأجاب (صلى الله عليه وآله):" الورع عن محارم الله"9
2- الاجتهاد، وهو بذل الجهد في مرضاة الله تعالى، فالورع هو كفّ عن المحارم وإعراض عنها، بينما الاجتهاد هو خطوة أمامية فيها جهد لأجل نيل الكرامات الإلهية كالجهد الذي يُبذل في الصلوات، والصيام، والذهاب إلى المسجد، وخدمة الناس، والجهاد في سبيل الله وهكذا.
وفي إطار الحديث عن هذا الاجتهاد بيّن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليه السلام) بعضاً من هذا الاجتهاد المطلوب في شهر رمضان والذي به تتحقّق إعانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والذي منه:
أ- الصوم
فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "ما فاتني صوم شعبان منذ سمعت منادي رسول الله ينادي في شعبان"10.
وعن صادق أهل البيت (عليه السلام): "صيام شعبان ذخر للعبد يوم القيمة. وما من عبد يكثر الصيام في شعبان إلّا أَصلح الله له أمر معيشته، وكفاه شر عدّوه، وإنّ أدنى ما يكون لمن يصوم يوماً من شعبان أنْ تجب له الجنة"11.
ب-الصلوات المستحبة الواردة في هذا الشهر المبارك12.
ج-الاستغفار
عن الإمام الرضا (عليه السلام): "من استغفر الله تبارك وتعالى في شعبان سبعين مرة غفر الله ذنوبه ولو كانت مثل عدد النجوم"13.
د-الدعاء
ولعلّ أفضله المناجاة الشعبانية، تلك النعمة العظيمة من بركات آل محمد (صلى الله عليه وآله) والتي كان الإمام الخميني (قده) يؤكّد على تكرارها لما فيها من معانٍ جليلة وكرامات عظيمة. ومن الدعاء المستحب في شهر شعبان الدعاء الوارد عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام عند زوال كلّ يوم: "أللهم صلّ على محمد وآل محمد شجرة النبوة..."14.
هـ-الصدقة
عن النبي (صلى الله عليه وآله): "من تصدق بصدقة في شعبان رباها الله تعالى كما يربى أحدكم فصيله حتى يوافى يوم القيمة وقد صارت مثل أحد"15.
إلى غير ذلك من الأعمال الجليلة.
3- العّفة
إنّ العفّة هي حالة نفسية تمتنع بسببها النفس عن غلبة الشهوة16، كأن تعفّ البطن والفم عن الأكل والشرب من الحرام وعن الغيبة والنميمة والكذب وشهادة الزور والبهتان وغير ذلك من معاصي اللسان، وكأن يعفّ الفرج عن الزنا ونحوه وهكذا.
ومن الواضح أن من يعيش العفّة في حياته يكون قد أمسك بزمام نفسه، وتحكّم بقيادتها، وكذلك يكون خير داعٍ إلى الهويّة التي يحملها، وإلى الإمام الذي يقتدي به، من هنا ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام): "ما عُبِدَ الله بشيء أفضل من عفة بطن وفرج"17.
4- السّداد
قد يكون الإنسان ورعاً قد كفّ نفسه عن محارم الله، مجتهداً في عبادة الله، عفيفاً قد أمسك بلجام نفسه من الانزلاق في الشهوات، ولكن قد يكون مع هذه الصفات الحميدة لا يمتلك الوعي والحكمة في مسيرته، وهذا قد يدخله في سُبل الأخطاء، ولا يجعله نموذجاً للاقتداء، من هنا أكّد أمير المؤمنين (عليه السلام) على إعانته بالسّداد الذي هو الصواب في العمل بأن يسعى المؤمن الذي عُرف في الحديث بأنه "كيّسٌ فطن"18 أن لا يسلك طريق الخطأ عن طريق الوعي الذي يصف به الحكمة والحكمة التي يتحلّى بها، فيكون خير داع إلى الهويّة التي يلتزمها، والإمام الذي يقتدي به.
إنّها أركان أربعة بها نعين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ونكون خير منتسبين لهما.
سماحة الشيخ د. أكرم بركات
___________________________________
1- هود 112.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج68، ص 221.
3- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج9، ص 470.
4- الطوسي، مصباح المجتهد، ص 825.
5- الأردبيلي، زبدة البيان، ص 167.
6- هود 112.
7- الأردبيلي، زبدة البيان، ص 167.
8- نهج البلاغة، ج3، ص 70.
9- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج9، ص 21.
10- المصدر السابق، ج9، ص 458.
11- المصدر السابق، ص 457.
12- راجع مفاتيح الجنان.
13- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة،ج15، ص 498.
14- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج7، ص 365.
15- المصدر السابق نفسه.
16- المازندراني، مولى محمد صالح، شرح أصول الكافي، ج8، ص 251.
17- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج14، ص 276.
18- المجلسي، بحار الأنوار، ج64، ص 307.