إنّ تأثير البيئة الطبيعية في البعد الجسمانيّ للطفل[1] من المسائل البديهية التي أثبتها العلم التجريبيّ. والطفل عنصر من مكوّنات النظام البيئيّ الطبيعيّ، فعلى سبيل المثال لا يمكن لأحد أن ينكر تأثير عوامل المناخ من حرارة وبرودة و... على نمط الحياة الإنسانية، أو ينفي التأثير السلبيّ لتلوّث المياه والهواء... على الأمن الغذائيّ للطفل، فضلاً عن كون البيئة الطبيعية تلعب دوراً أساساً في البعد الذهنيّ والمزاجيّ والنفسيّ و.. للطفل، حيث تلعب دوراً بارزاً في مساعدة الطفل على استكشاف الأشياء من حوله، الأمر الذي يساهم في تنمية طاقاته وكذلك الاستعدادات الذهنية، والنفسية، والمهاراتية...، ولكن هذا لا يعني أنّ البيئة تشكّل ملامح شخصيّة الطفل بنحو لا يكون إلاّ عنصراً متلقيّاً ومنفعلاً. فالبيئة لها تأثيرها على الطفل ولكن ليس على نحو أنّها العنصر الوحيد الذي يشكّل هويّة الطفل بطريقة حتمية، فالإسلام لا يقرّ حتمية تأثير عنصر واحد فقط بل يعتمد النظرة الشمولية التي بمجموعها تساهم في تشكيل الهوية الشخصية للطفل، وكما يعبّر السيّد محمّد باقر الصدر أنّ التصوّرات التي اعتمدت العامل الواحد في فهم الإنسان باءت بالفشل، معتبراً أنّ "كلّ هذه المحاولات لا تتّفق مع الواقع، ولا يقرّها الإسلام، لأنّ كلّ واحد منها حاول أن يستوعب بعامل واحد تفسير الحياة الإنسانية كلّها"[2]. ومن جملة هذه العوامل التي لها الدور الأبرز في تحديد معالم هوية الطفل عامل الوراثة، ويعتبر من العناصر الرئيسة التي يتمّ البحث عن مدى تأثيرها في صناعة شخصيّة الطفل عند علماء التربية والنفس والاجتماع والبيولوجيا، فما هي الوراثة؟ وما هو الدور الذي تلعبه في رسم معالم ماهية الطفل؟ تعريف الوراثة الوراثة في اللغة عبارة عن انتقال شيء جزءاً أو كلّاً من شخص أو موضوع إلى آخر مادياً أو معنوياً[3].
والمدلول الاصطلاحيّ للكلمة لا يختلف في المضمون عن المعنى اللغويّ.
وقد أصبح موضوع الوراثة اليوم محوراً مستقلّاً لعلم خاصّ من فروع علم الأحياء أطلق عليه وليام باتسون مصطلح: "علم الوراثة"، ووظيفته دراسة الصفات التي يتمّ انتقالها من الآباء إلى الأبناء، وكيفية ذلك الانتقال، وتفسير أسباب التشابه والاختلاف بين من تجمعهم صلة القرابة. قانون الوراثة 1- قانون الوراثة بيولوجياً: من الأمور الثابتة في البحث البيولوجيّ أنّ قانون الوراثة الطبيعيّ المتعلّق بنقل الخصائص والصفات الجسمانية من الآباء والأجداد للأبناء والأحفاد، لا شكّ في صحّته وبداهته، وقد كشفت الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام هذا الأمر خصوصاً الوارد فيها لفظ: "العرق"، منها: ما ورد في الحثّ على حسن اختيار الزوجة، كقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "تخيّروا لنطفكم، فإنّ العرق دسّاس"[4]، حيث اعتبر بعض العلماء أنّ هذا الحديث يُسلّط الضوء على قانون الوراثة بشكل صريح باعتبار الترادف بين العرق والوراثة[5]. ومعنى العرق معروف، وهو أيضاً في اللغة أصل كلّ شيء وما يقوم عليه[6]، ودسّاس من الدسّ أي أدخل الشيء في الشيء بخفاء، ومفاد الحديث أنّ هناك خصائص معيّنة تنتقل بالنسب من الأصل وتدخل إلى الفرع. 2- قانون الوراثة ذهنياً ونفسياً وسلوكياً: اتّضح ممّا تقدم أنّ عامل الوراثة له أثره البيولوجيّ على شخصية الطفل، لكن يبقى السؤال: هل تشمل الوراثة انتقال الخصائص غير الجسمانية إلى الذرّية، كالخصائص الذهنية والصفات النفسية والسلوكية... إلخ؟ وعلى فرض انتقالها هل يُمكن للإنسان بإرادته الحرّة واختياره نقض قانون الوراثة الطبيعيّ؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ أن نشير إلى مسألة أساس وهي وجود علاقة اتّحاد بين نفس الإنسان وبدنه، بمعنى أنّ كل واحد يتأثر بالآخر، وهذا يعني بالنتيجة أنّ الصفات والخصائص الجسمانيّة ستؤثّر على الصفات الذهنية أيضاً. يقول الشيخ جعفر السبحاني: "إنّ الأولاد كما يرثون أموال الآباء وثرواتهم، يرثون أوصافهم الظاهرية والباطنية، فترى أنّ الولد يُشبه الأب أو العمّ، أو الأُمّ أو الخال... وعلى ذلك فالروحيات الصالحة أو الطالحة تنتقل من طريق الوراثة إلى الأولاد، فنرى ولد الشجاع شجاعاً، وولد الجبان جباناً إلى غير ذلك من الأوصاف الجسمانية والروحانية"[7].
ومن أدلّتهم على ذلك ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "انظر في أيّ شيء تضع ولدك فإنّ العرق دسّاس"[8]. وقد عقّب الإمام الخمينيّ على هذا الحديث بقوله: "والمراد من الدسّاس أنّ أخلاق الآباء تصل إلى الأبناء"[9]. ...................................................... [1] يراجع: اليزدي، محمد تقي مصباح، النظرة القرآنية للمجتمع والتاريخ، ص207-208. [2] يراجع: الصدر، السيد محمد باقر، اقتصادنا، بيروت، دار التعارف، 1411ه - 1991م، ص55. [3] المصطفوي، حسن، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، لا.م، مؤسسة الطباعة والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، 1417ه، ط1، ج13، ص77. [4] الحلي، محمد بن منصور، السرائر، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1410ه، ط2، ج2، ص559. والفيض الكاشاني، محمد بن المرتضى، المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، بيروت، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1403ه - 1983م، ط2، ج3، ص93. [5] فلسفي، محمد تقي، الطفل بين الوراثة والتربية، ج1، ص61. والجواهري، حسن، بحوث في الفقه المعاصر، ج3، ص162. [6] الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق علي شيري، بيروت، دار الفكر، 1414ه - 1994م، لا.ط، ج13، ص324. [7] السبحاني، جعفر، عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، قم، مؤسسة الإمام الصادق، 1420ه، ط2، ص33. [8] الهندي، علي المتقي، كنز العمال، ضبط وتفسير بكري حياني، تصحيح صفوة السقا، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1409ه - 1989م، ج15، ص855. [9] السبحاني، جعفر، لب الأثر في الجبر والقدر تقريراً لمحاضرات الإمام الخميني، ص120.
|