﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾. البقرة: 213.
أربع حقائق تتجلى في الآية الكريمة، هي:
1- تشير اولاً إلى وحدة البشرية بالفطرة على خط عبادة الله وتوحيده ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾. وفي هذه المرحلة -وهي المرحلة الاولى- كان الناس يعبدون الله عز وجل ويطيعونه ويوحدونه على الفطرة.
2- وتشير ثانياً إلى أنّ الناس قد انحرفوا فيما بعد عن مقتضى الفطرة، ودبّ الاختلاف بينهم، فضعفت وفسدت فطرتهم، الامر الذي يعني نهاية المرحلة التي كانت فيها الفطرة هي السائدة والحاكمة في حياة الانسان.
وكان لا بد من دخول عامل جديد في حياة الانسان إلى جانب الفطرة، لهدايته إلى الله سبحانه وتعالى.
اما السبب في ضعف الفطرة وفسادها وانحراف الناس عنها فهو الاختلاف ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾.
ونرى في معنى هذا الاختلاف: أنّ الناس كانوا يعيشون في هذه المرحلة حياة بدائية بسيطة، فلمّا تعقدت حياتهم وتشعبت علاقاتهم، وظهرت عناصر جديدة في حياتهم، ظهر (الظلم) بينهم، وتجاوز بعضهم على بعض.
و(الظلم) ظاهرة اجتماعية لها اسبابها وآثارها ونتائجها.
فاما الاسباب فهي (الهوى)، ولولا (الهوى) لم يظهر الظلم في حياة الانسان واما الآثار فـ (الاستكبار)، لان الظلم يستتبع دائماً وجود فئة (مستكبرة) في المجتمع، تعتدي على حقوق الآخرين، وتتجاوز على حدود الله تعالى.
ونتيجة (الظلم) و(الهوى) و(الاستكبار): (الفساد) في النفس والمجتمع، وبرز الانحراف في حياة الانسان عن خط الفطرة في نقطتين:
الاولى: في استبدال حاكمية الله تعالى بحاكمية الطاغوت، وهذه الحالة تبرز بتأثير من نفوذ الطاغوت في المجتمع.
الثانية: في الانحراف عن خط العدل والحق إلى الظلم والتجاوز.
وهذه النقطة تبرز نتيجة نفوذ الهوى في حياة الانسان.
وبذلك ظهر الاختلاف في الميثاق الفطري الذي كان قائماً بين الله تعالى والانسان، ولم تعد الفطرة بعد أنْ أضعفها الفساد كافية في توجيه الانسان وتعبيده لله تعالى وهذا هو فيما اعتقد تفسير الاختلاف الذي تُحدثنا عنه الآية الكريمة.
وعن هذه المرحلة من سيادة الفطرة على حياة الانسان، وما يعقبها بعد ذلك من الاختلاف يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾. يونس: 19.
والكلمة التي سبقت القضاء هي قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾. البقرة: 36.
3- ولما دخل الاختلاف باسبابه ونتائجه حياة الانسان وأفسد عليه سلامة فطرته، أرسل الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين إلى الناس.
ورسالة هؤلاء النبيين دعم وأسناد الفطرة، وبعثها وإثارتها، بعد ان افسدها الاختلاف واضعفها. وهؤلاء النبيون هم (الشهداء)، وهذه المرحلة من حياة الانسان بداية مرحلة (الشهادة). يقول تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا﴾. النساء: 41.
﴿و مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾. المائدة: 117.
﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾. النحل: 89.
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء﴾. المائدة: 44.
﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾. الزمر: 69.
وسوف نتحدث ان شاء الله عن الشهادة، ومعناها، ورسالة الشهداء، ومسؤولياتهم في الدنيا والآخرة، ولكن لا بد ان نذكر هنا أنّ رسالة هؤلاء الشهداء في الدنيا تهدف إلى ثلاثة امور: 1- التذكير. 2- التعليم. 3- الرقابة على سلوك الانسان.
ومهمة التذكير هي اثارة الفطرة، وبعثها، عندما يصيبها الخمول، وهي غير مهمة (التعليم). والقران الكريم يحمّل الانبياء المسؤوليتين معاً:
مسؤولية التعليم ومسؤولية التذكير. والأنبياء معلمون ومذكرون معاً. يقول تعالى في امر التذكير: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾. الغاشية: 21.
وعن مهمّة الانبياء في التعليم يقول تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُون﴾. البقرة: 151.
﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾. الجمعة:2.
والتذكير يتناول امر الدعوة إلى الله تعالى.
واما التعليم فيتناول ما يعلمنا الله تعالى من الحكمة وشرائع دينه.
اما المهمة الثالثة فهي الرقابة على سلوك الناس، وتتمثل في الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونستطيع ان نلخص رسالة الانبياء في ثلاث كلمات: الدعوة، الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يتخللها من العلم الذي يأتي به الانبياء من جانب الله تعالى.الميثاق والشهادة
اذن الميثاق والشهادة بعضها يكمل بعضاً، فان (الميثاق) هوارتباط الانسان بالله تعالى عن طريق الفطرة. و(الشهادة) هي اسناد ودعم هذا الارتباط بارسال النبيين والشهداء ومهمّة الشهداء هي بعث الفطرة واثارتها واعادة ارتباطها بالله تعالى.
4- الاختلاف الذي يلي ارسال النبيين: يقول تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾. البقرة: 213.
وهذا الاختلاف غير الاختلاف الاول الذي اشارت اليه الآية المباركة من قبل ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾. البقرة:213.
اذن فهناك اختلافان تُشير اليهما الآية:
الاول: انحراف عن الفطرة. الثاني، اختلاف حول دعوة الانبياء والانحراف عن رسالتهم.
والاختلاف الاول كان قبل مبعث الرسل، والثاني كان بعد مبعث الرسل ومن قبل علماء اهل الكتاب انفسهم.
قال تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾. الشورى: 14.
﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾. آل عمران: 19.
وهذا الاختلاف الثاني، الذي تشير اليه الآية الكريمة من مشاكل التأريخ الحضاري للانسان، ولسنا الان بصدد البحث عنه. |