هناك ثلاثة مستويات بين الاستقلال والانغماس الثقافيّ للأفراد على الشبكة:
الأوَّل: هو الأقل حجمًا والأكثر فكرًا وثقافةً وسيبقى محافظًا على وضعه أو قد يزداد تألّقًا إذا ما انخرط في منصَّات ووسائل التواصل الاجتماعيّ، وهذه المجموعة هي الأكثر إنتاجيَّة في الواقع والأكثر تأثيرًا على الشبكة ويسمّون بالمؤثّرين حسب مايكل زوكربرغ في رسالته الشهيرة للعالم وقدَّرهم بـ «100 مليون شخص مؤثّر في مجموعات مؤثّرة أي 100 مليون ناشط ومُحرك يوجِّه سائر المجموعات على الشبكة»[1]، فيما البقيَّة هم من المتلقين والمتفاعلين غير المنتجين للمحتوى الرقميّ بطبيعة الحال.
الثاني: هو أقل من المستوى الأوَّل ثقافيًّا ولكنَّه الأكثر حجمًا وسيبقى متأرجحًا بين المستوى الأوَّل والتزوّد منه والانخراط مع المستوى الثالث والاندماج معه، لكن بشكل عام هذا المستوى متّجه نحو الأعلى على الرغم من حثيث سيره.
الثالث: هو الأعمّ الشائع المنغمس مع شبكات التواصل الاجتماعيّ ويسير مع كل ما يُطرح لكن من دون تأمّل وتفحّص ويمكن القول عنه أنَّه «يسير مع الهواء» وهو بشكل عامّ لا يبشر بخير ومتّجه نحو الأسفل مع شديد الأسف[2].
وقد رصد بعض الخبراء والباحثين آثارًا سلبيَّة لشبكات التواصل الاجتماعيّ والإنترنت على البنية الثقافيّة للفرد، نورد بعضًا منها:
1. تسطيح الثقافة: إذ يمتلك كلّ فرد معلومات طفيفة عن الموضوعات والظواهر المهمَّة وذلك بسبب كثرة عرض المعلومات التي تقلِّل من التركيز على مادَّة معيَّنة.
2. ذوبان الثقافات المحلّيَّة وسط بحر الثقافات العالميَّة: وبالتالي غلبة الثقافة الغربيَّة المستوردة ذات المحتوى الهائل في ظل قلَّة وندرة المحتوى العربيّ والإسلاميّ الرصين على الإنترنت ووسائل التواصل؛ وهو ما أثبته عدد من الدراسات لمؤسَّسة الفكر العربي التي نُشرت في التقارير الثقافيّة السنوية[3] وتحوِّل الثقافات المحليَّة إلى مجرد شعارات وقشور.
3. الاغتراب: هي الحالة التي يشعر بها الفرد أنَّه غريب وسط العالم. ثقافته المحليَّة قديمة وعاجزة عن مسايرة التطور.. والثقافة المستوردة مستعجلة وليس من السهولة تطبيقها في مجتمعه.
4. عجز وسائل التنشئة والتعليم القديمة: أي نكوصها أمام قوَّة تأثير وسائل التواصل الاجتماعيّ التي باتت تشكل 85% من ثقافة الطلبة.
5. تراجع مكانة العائلة: أضعفت شبكات التواصل الاجتماعيّ مكانة ومقدرة الأب والأم على التربية السلوكيَّة، بسبب فقدان السيادة على العائلة (الأولاد) التي أصبحت تُربَّى من قبل شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعيّ؛ مع وجود استثناءات من دون شك.
6. كثرة الأفكار المطروحة: تجعل شبكات التواصل الاجتماعيّ قيمة الأفكار الجديدة معدومة أو ضئيلة، بمعنى أنَّ الفرد لا يجد حاجة للتفكير ما دام كلّ شيء قد تمَّ طرحه ونشره بغزارة لا توصف.
7. موت الايديولوجيا: لأنَّ الأفكار قد تلاقحت واختلطت وباتت العقول الإنسانيَّة رقميَّة لغةً وتفكيرًا وهي متقاربة إلى حدٍّ كبير، وبالمقابل تولَّدت ايديولوجيَّات أو قناعات هجينة جرَّاء تيَّار شبكات الإنترنت ومواقع التواصل مكانها، كما سنبيِّن في فقرة مستقلَّة.
8. مخاطر الانتشاريَّة: هو ما يصطلح عليه في الغرب (Proliferation) أو الانتشاريَّة التي تحقق للمنتّج الثقافيّ الوصول إلى ملايين المشتركين حتى من غير المتابعين وهو ما يثير الفضول (Curiosity) لدى الكثير منهم. وهنا لا بدَّ من التمييز بين عالمين يختلفان في التلقي أوَّلهما راسخٌ وله تقاليد قديمة في المتابعة (الغرب) والثاني لديه فوضى في التلقّي لم ترسّخها التقاليد المجتمعيَّة (الشرق)، والدليل أنَّ السويد مثلًا وبقيَّة الدول الاسكندنافية توزِّع أجهزة iPad على جميع المراحل الدراسيَّة وتدخلهم دورات في صناعة البرامجيَّات وتقيم لهم المعارض النصف سنويَّة لإبراز انتاجاتهم، في حين أن قياس الحصيلة في العالم العربي يعطي نتائج سلبيَّة على مستوى إنتاج المحتوى.
9. إضعاف الذاكرة المؤقَّتة: يؤدِّي التعرّض الدائم لمواقع التواصل الاجتماعيّ إلى ضعف في الذاكرة المؤقَّتة للإنسان «short-term memory»، فالتعرّض للكلام المستمر على الفيسبوك والتغريدات السريعة على تويتر يضعف من قدرة الدماغ على تخزين المعلومات، ولا يسمح لها بالراحة من أجل المواصلة على تخزين كمّ كبير من المعلومات، فبالإضافة إلى التأثير المباشر على الذاكرة المؤقتة، تمنع مواقع التواصل الاجتماعيّ كذلك العقل من الدخول في حالة «الراحة» أو «Down Time»، وهو الوقت الذي يستغلُّه الدماغ لنقل وتخزين المعلومات التي تعرض لها الفرد طوال اليوم، لذا يقول الأطبَّاء إنَّ التحديق من نافذة الحافلات في الشارع أكثر صحيَّة للدماغ من التحديق المستمر في شاشة المحمول.
10. جعل الفرد أكثر عرضة للضغط العصبيّ: تُعرِّض مواقع التواصل الاجتماعيّ الفرد لآراء آلاف وعشرات آلاف بل ربما لملايين البشر في اللحظة نفسها، فإذا قرَّرت شراء أي منتج معيَّن من الإنترنت، ربما لن يعجبك المنتج في البداية، إلَّا أنك وبعد أن تقرأ تعليقات مختلف المستخدمين على المنتج، يمكنك أن تغيّر رأيك بمنتهى السهولة، حيث جاءت إحدى الدراسات الاجتماعيّة بنتيجة مفاجئة، أنَّه يمكن لبضعة نقرات على زر الإعجاب في الفيسبوك أن يغير رأي الكثير من الأفراد، ولا يحتاج الأمر لآلاف من الأعداد، هذا أيضًا ما يفسِّر طريقة تعامل الجيل الحديث مع ما ينشرونه على صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعيّ، فإن لم تأت صورة لهم بعدد معين من نقرات الإعجاب، فإنَّهم سيقومون بحذفها من الصفحة، والعكس صحيح.
11. إفساد التفكير النقديّ: تدفع مواقع التواصل الاجتماعيّ إلى إعادة التغريد، وإعادة النشر، والإعجاب بما يفعله مشاهير مواقع التواصل الاجتماعيّ، كما تدفعك بدون وعي إلى أن تتبنَّى رأيهم، فتقلِّل من التفكير الذاتيّ والتفكير النقديّ، وتجعلك وسيلة لإعادة النشر فحسب، كما لا تسمح لك بالتعبير المفتوح عن آرائك مع تحديد عدد الكلمات المسموح لك بنشرها، وهنا تختصر كلامك وتبسّطه ليصل إلى أبسط المستويات، ولا يكون في الواقع ما تريد حقًا أن تعبِّر عنه.
12. أوهام نمط الحياة المثاليَّة: لم تعد وسائل التواصل الاجتماعيّ مجرَّد وسيلة لمشاركة الأفكار والأفعال بين الأقران، لكنَّها أصبحت وسيلة لتأسيس سمات ومشاركات لأنماط الحياة، ومع ذلك، فهذا النمط من الحياة قد يكون مختلقًا وملفَّقًا في أوقات كثيرة، وهؤلاء الأشخاص الذين يتابعون مشاهير وسائل التواصل الاجتماعيّ يعتقدون بصدق أن هؤلاء الناس يعيشون حياة مثيرة لا تشوبها شائبة. وبدرجةٍ ما، فهؤلاء الذين شحذوا مشاعر نمط حياتهم المهنيَّة يبدو كأنَّهم اكتشفوا الأمر برمَّته وحقَّقوا الحريَّة المطلقة، لذا أصبحت حياتهم هي مهنتهم وكلّ ما يقومون به في حياتهم غرضه العرض، لكن لا شيء منه أصيل حقًا[4]. وبلا شك أنَّ وسائل التواصل الاجتماعيّ لها العديد من المميِّزات، إعلانات مجانيَّة وفرص لا نهائيَّة من التواصل خاصَّة مع الأصدقاء القدامى، لكن هناك جانب شرير تزداد خطورته عند البقاء «متّصلًا» طول الوقت، فوسائل التواصل الاجتماعيّ غيَّرت بشكل سلبي من نظرتنا لأنفسنا وللآخرين، والأمر يزداد سوءًا. الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعيّ، مركز الحرب الناعمة
عدد المشـاهدات 1080 تاريخ الإضافـة 21/05/2022 - 10:10 آخـر تحديـث 22/11/2024 - 23:28 رقم المحتـوى 20654