ركّز الإمام الخميني (قدس سره) على القدس المدينة كرمز ومحور وأساس في القضية الفلسطينية وان رمزية القدس ناشئة من جهتين، الاولى القداسة الخاصة لهذه المدينة لدى المسلمين كافة فهي اولى القبلتين، والثانية هي المظلومية والشكوى والاسر حيث الادعاء الكاذب من اليهود بوجود هياكل سليمان تحت مسجدها ومحاولاتهم المستمرة لهدم المسجد تبعاً لهذا الادعاء، والإمام الخميني (قدس سره) لم يكن ليعترف بأي حق لـ"اسرائيل" في الوجود، ولا يقر ايضاً بأي حق لها في أي أرض أو في أي مساحة من الأرض الاسلامية، كما انه كان يرى ضرورة طرد اليهود من جميع فلسطين كل فلسطين من الجليل الى غزة ومن نهر الاردن الى البحر المتوسط، ولم يكن الإمام ليفرّق بين اراضٍ احتلت عام 8491 وأخرى احتلت عام 1967. فكلها محتلة، و"اسرائيل" كلها غاصبة، ويجب ان تزول بتمامها ومع ذلك كله فقد اعطى الإمام (قدس سره) اهتماماً ورعاية خاصة لقضية القدس لانها تشكل المدخل الى كل فلسطين وتعبّر عن المظلومية التي تنتاب احد الاماكن المقدسة لدى المسلمين والعرب والمسيحيين والاحرار في العالم، فالقدس مهبط الانبياء ومحل الوحي وموطن الاولياء والصالحين منذ ادم الى نبينا الاعظم محمد (صلى الله عليه وآله)، فقداستها متعددة الاوجه ومظلوميتها الكبرى شاهدة على كل المظلوميات، كما ان ضميرها المستبطن للتاريخ الغابر يعتمر في نفوس المؤمنين حكايات عشق ووله الى الاسلاف من الاولياء والاطهار الذين تشرّفت بهم تلك الارض التي تحدث الله عنها في عدة محال من كتابه العزيز بأنها الارض المباركة هي وما حولها، مما يجعل العلقة مع هذا الرمز قوية ومتينة متانة الارتباط بالرموز الذين مروا على هذا المعلم. هذا الامر الذي يخلق حالة تفاعلية وجدانية تؤسس لحركة تأثر بما يجري في القدس ولما يحصل لها وحركة فاعلة باتجاه التعبير عن هذه الحالة بالسخط والغضب تارة، وبالقيام والثورة تارة اخرى، من هنا فان تأكيد الإمام الخميني (قدس سره) على هذا الرمز "القدس" باعتباره محور قضية فلسطين، بل محور قضية الامة، بل ايضاً محور قضية الصراع بين الحق والباطل وبين الاخيار والاشرار وبين الحرية والعبودية وبين الاستكبار والاستضعاف، فقد اعطى الإمام للقدس ابعاداً ودلالات تستحقها كونها موطن امال الملايين من اتباع الديانات من الذين يتوجهون شطرها شطر الحق الشاخص فيها والشاخصة فيه، فهي محل هبوط الشرائع الالهية التي نزلت الى عالم الانسان والشهادة من عالم الغيب، فهي محل اسقاط الغيب في الشهادة، وهي محل عروج الانسان الى عالم الكمال، ولعلّه لاجل ذلك كانت محطة معراج النبي (صلى الله عليه وآله) الى السماء مخترقاً الارض التي قطعها بين الحجاز وفلسطين في رحلة اسرائه في عالم الملك مقدمة للصعود والترقي في عوالم الملكوت..
وقد عمل الإمام الخميني (قدس سره) على اعادة القدس الى موقعها الطبيعي من خلال الاضاءة على مجموعة الابعاد التي ترمز اليها فهي ليست رمزاً شخصياً ولا وطنياً ولا قومياً، كما انها ليست قضية دين او ملّة بعينها، انها قضية الانسان والامم والتاريخ والحرية، والحق والاديان والاوطان والازمان، وانها رمز المظلومية والاستضعاف على امتداد هذا العالم الذي يتدافع فيه الناس بين موقعي الحق والباطل، وهي المكان الشاهد على تحدي الاستكبار لسنن التاريخ، ومخالفته للقوانين وانتهاكه للحقوق، وسيطرته بالقوة والهيمنة على بقاع الارض، وان خير البقاع القدس وقد نالت نصيبها الوافر من الاسر والتسلط والاستبداد والظلم، حتى وصلت حدود ذلك الى مساجدها وكنائسها والى دور العبادة فيها التي يفترض بها ان تكون وادعة امنة مطمئنة يحيط بها السكون والرهبة في ظلال الرب العطوف الرؤوف الذي اختار هذه البقعة من العالم لتكون محل اشعاع للرحمة وللرحمانيين ومحل سلام وامن للعابرين والقاصدين والحاجين فاذا بها تحول بفعل الايدي الاثمة والنفوس الشريرة لأسوأ خلق الله الى محل مغتصب سجين، تحيط به الاسوار من كل جانب، ويعتصره الألم في كل زاوية، وتذرف عيناه الدموع في كل اتجاه، ويستصرخ الضمائر الانسانية التي صاغها الرب الذي اصطفاه من بين الامكنة لكي تحج اليه الملايين من المحبين والمؤمنين ليلبوا حاجة الأنس الى جوار النبيين والصالحين. وقد تحدث الإمام الخميني (قدس سره) عن هذه الزاوية بقوله: "ان مسألة القدس ليست مسألة شخصية، وليست خاصة ببلد ما، وليست خاصة بمسلمي العالم في العصر الحاضر".
كما أكد الإمام الخميني (قدس سره) على ان قضية القدس ليست مرتبطة بالزمن الحاضر، بل هي على الدوام قضية المؤمنين من اتباع الديانات، لذا فهي آخذة بالتفاعل التدريجي من الماضي الى الحاضر وصولاً الى المستقبل حيث الوعد بتخليص هذا الرمز من الاحتلال.
وفي نفس المعنى يقول الإمام الخميني (قدس سره): "انها (أي قضية القدس) مسألة تخص الموحدين في العالم، والمؤمنين في الاعصار الماضية والحاضرة والقادمة ومنذ اليوم الذي وضع فيه الحجر الاساس للمسجد الاقصى وحتى الان وما دام هذا الكوكب السيّار يدور في عالم الوجود".
ثم يتحدث الإمام (قدس سره) عن الجرأة والجسارة على الله ورسله والتحدي لوعده من خلال بث الظلم والاعتداء على اماكن وحي الله ومحال عبادته واغتصاب اروقة التقرب اليه من قبل شرذمة اليهود.
يقول الإمام (قدس سره): "ان من المؤلم ان تتجرأ حفنة من الأوباش المجرمين في عصرنا هذا على التجاسر على الله تعالى ورسله الكرماء بمرأى من المسلمين ورغم كل الامكانات المادية والمعنوية وانه لمن العار على الحكومات الاسلامية ان تتخذ موقف المتفرج على قيام عنصر فاسد معدوم القيم بالتطاول واغتصاب معبد المسلمين المقدس وقبلتهم الاولى، انه من المخجل السكوت في مقابل هذه المأساة التاريخية الكبرى".
ثم يستعرض الإمام الخميني (قدس سره) تلك الوقفة الشامخة لشباب فلسطين الغيارى والشجعان الذين قاموا ولبّوا نداء القدس وتلونت جدران مسجدها بدمائهم الزاكية والذين تلقوا بصدورهم رصاصات الحقد من اسلحة الصهاينة وها هم قد اعلنوا انتفاضتهم المباركة على العدو الجاثم على ارضهم المحتل لمقدساتهم.
يقول الإمام الخميني (قدس سره): "اليس عاراً على المسلمين ان لا يعلنوا عن مواساتهم ولا يلبوا نداء المظلومية للشبان الفلسطينيين الاعزاء الذين لوّنت دماؤهم جدران المسجد الاقصى والذين تلقوا رصاص الرشاشات من حفنة من المحتلين جواباً لمطالبهم الحقة المشروعة".
وبعد ذلك يوجه الإمام الخميني (قدس سره) تحيته المباركة من اليد المباركة الى المنتفضين والى الاقصى المبارك والى الشعوب الثائرة في مواجهة الاحتلال والى مستضعفي العالم الذين يعتبر الإمام ان العصر الذي قام هو فيه واسس له هو عصر قيامة المستضعفين وانتصارهم على المستكبرين.
يقول (قدس سره): "وتحيه للقدس والمسجد الاقصى، وتحية للشعوب الناهضة في مواجهة "إسرائيل" المجرمة، وتحية لمسلمي ومستضعفي العالم"... القدس في فكر الإمام الخميني (قدس سره)، مركز الإمام الخميني الثقافي |