عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أحسنوا ظنّكم بإخوانكم..."1.
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "حسن الظنّ من أكرم العطايا، وأفضل السجايا"2.
دعا الإسلام إلى "حسن الظنّ" بالناس، أي ترجيح الجانب الإيجابيّ، أو على الأقلّ غير السلبيّ فيما يفعله الناس ممّا قد يبدو سلبيًّا.
من أمثلة ذلك: مرَّ أمامي أحد زملائي في العمل دون أن يلقي التحيَّة عليَّ. • يبدأ التحليل: لماذا فعل ذلك؟ هل هو يتكبّر عليّ؟ • هل هو يبغضني؟ أو أنّه لم يلتفت إليَّ أثناء مروره؟
إنّ حسن الظنّ يقول لي: ابنِ أنّه لم يلتفت إليك، فلعلّه شارد أثناء مروره نحوك.
استدعاني مدير المؤسّسة التي أعمل فيها، ووبّخني على بعض ما فعلته، مع العلم أنّي لم أكن وحدي، بل كان برفقتي زميلٌ لي.
هنا يبدأ التحليل: • هل صاحبي هو الذي نقل ذلك إلى المدير؟ • أو يمكن أن يكون عند المدير مصدر آخر؟
إنّ حسن الظنّ يقول لي: ابنِ على الاحتمال الثاني.
رأيت أخًا يشرب سائلاً يُحتمَل أنه "بيرة" محرّمة أو "ماء شعير" حلال.
إنّ حسن الظنّ يقول لي: ابنِ أنّه ماء شعير حلال.
قد أجدُ في بعض الحالات صعوبةً في تبرير العمل، ومع هذا فقد دعانا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليه السلام إلى التماس العذر له، والبحث عن محمل حسن لعمله. فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "اطلب لأخيك عذراً، فإن لم تجد له عذراً، فالتمس له عذرًا"3. وعن الإمام عليّ عليه السلام: "ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يغلبك، ولا تظنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءًا، وأنت تجد له في الخير محملاً"4.
يمكن مقاربة هذا النوع من الأحاديث من خلال التأمّل في أنَّ المعلومة بين أن يتلقاها الإنسان وما ينتج من موقف على أساسها تمرّ بقناة ذهنيّة نفسية تؤثّر فيها خلفيّات الإنسان وتوجّهاته الداخليّة التي لحياته الخاصّة ولبيئته وثقافته أثر بارز فيها، فينعكس هذا الأمر على الموقف المتَّخذ. وهذا ما أشار إليه الإمام عليّّ عليه السلام في بعض كلماته حول أسباب سوء الظنّ التي عدَّ منها: 1- الشرّ الذاتيّ فعنه عليه السلام: "الشرير لا يظنّ بأحد خيراً, لأنّه لا يراه إلّا بطبع نفسه"5. وفي المقابل فإنّ حسن الظنّ ينطلق عادةً من صفاء الداخل، وسلامة القلب، كما وردت الإشارة إلى ذلك في حديث للإمام الصادق عليه السلام: "حسن الظنّ أصله من حسن إيمان المرء وسلامة صدره"6.
2- مجالسة الأشرار عن الإمام عليّ عليه السلام: "مجالسة الأشرار تورث سوء الظنّ بالأخيار"7.
حسن الظنّ بين التعمية والموضوعيّة قد يعتقد بعضهم أنَّ حسن الظنّ بالناس فيه نوع سلبيّ من التعمية على الحقيقة، فهل هذا الأمر صحيح؟ الجواب: نحن نسلِّم بأنّ حسن الظنّ فيه نوع من الإغماض، لكنّها إيجابيّة في أمرين: الأول: أنّه قد يكون موضوعيّاً أكثر من سوء الظنّ. الثاني: أنّه من عوامل سكينة النفس واطمئنان القلب.
أمّا كونه مقاربًا للموضوعيّة, فلأنّ سوء الظنّ في كثير من الأحيان يكون ناتجًا من فهم خاطئ للموضوع، كما في الأمثلة الثلاثة المتقدّمة، فقد يكون انشغال الإنسان ببعض همومه هو سبب عدم التفاته وإلقاء التحيّة، وقد يكون للمدير مصدر معلومات غير ذلك الزميل، وقد يكون ما يشربه الأخ هو ماءَ شعير حلالاً. أمّا الاحتمال السلبيّ الآخر، وإن كان موجودًا، إلاّ أنَّ مصدره قد يكون تلك القناة الذهنيّة بين تلقّي الخبر أو الحدث وبين ناتج الفهم له.
آثار حسن الظنّ 1- العلاقات الاجتماعيّة السليمة من الواضح أنَّ حسن الظنّ بالآخرين يحافظ على سلامة العلاقة الاجتماعيّة، وعدم تفسّخها، لما لها من أثر في تعميم ثقافة أصالة الخير في عمل الناس.
2- السعادة الشخصيّة ممّا لا يخفى أن منشأ سعادة الإنسان يقتصر على أمر واحد هو اطمئنان القلب وراحته وسكينته، وهذا ما يجده الإنسان من خلال حسن ظنّه بالناس، وقد أكّد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام هذا المعنى من خلال أحاديث عديدة وردت عنهما، منها: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أحسنوا ظنونكم بإخوانكم تغتنموا بها صفاء القلب..."8.
عن الإمام عليّ عليه السلام: "حسن الظنّ راحة القلب"9. وعنه عليه السلام: "حسن الظنّ يخفّف الهمّ"10.
وعنه عليه السلام: "إنّ حسن الظنّ يقطع عنك نصبًا11 طويلاً"12.
3- النجاة في الآخرة إنّ حسن الظنّ يبعد الإنسان عن تحمّل ذلك الحرام، وهذا ما أرشد إليه الإمام عليّ عليه السلام بقوله: "حسن الظنّ ينجّي من تقلّد الإثم"13.
حدود حسن الظنّ إنّ حسنَ الظنّ بالناس رغم إيجابيّاته الكثيرة، إلّا أنَّ له حدوداً ينبغي الالتفات إليها منها: 1- إنّ حسن الظنّ إنّما هو عند الاحتمال في مقابل احتمال آخر، وليس عند اليقين بالسوء، فقد يعلم الإنسان علم اليقين بشيء سلبيّ قام به الآخر، فهنا عليه أن يكون فطنًا في ردّة فعله ضمن الضوابط الشرعيّة، وقد عبَّر عن هذا المطلب أمير المؤمنين عليه السلام فيما ورد من قوله عليه السلام: "ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يغلبك منه"14.
2- إنّ حسن الظنّ لا يعني التفريط في التعامل مع الآخرين بثقة مطلقة، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تثقنَّ بأخيك كلّ الثقة, فإنّ صرعة الاسترسال لا تُستقال"15. وقد أعطى الإمام عليّ عليه السلام تطبيقًا عمليًّا ينفع في العلاقات مع الآخرين، لا سيَّما الجانب الأمنيّ، فعنه عليه السلام: "احذر من أصحابك ومخالطيك الكثير المسألة، الخشن البحث، اللطيف الاستدراج، الذي يحفظ أوَّل كلامك على آخره، ويعتبر ما أخَّرت بما قدَّمت، ولا تظهرنَّ له المخافة، فيرى أنّك قد تحرَّزت وتحفّظت، واعلم أنَّ مِنْ يقظة الفطنة إظهارَ الغفلة مع شدّة الحذر، فخالط هذا مخالطة الآمن، وتحفّظ منه تحفّظ الخائف .."16.
3- ينبغي التحفّظ في قيمة حسن الظنّ في المجتمعات التي يغلب عليها الظلم والجور، بحيث يصبح حسن الظنّ من السذاجة السلبيّة في مثل هذه البيئة، وهذا ما أشار إليه الإمام الكاظم عليه السلام في الحديث الوارد عنه: "إذا كان الجور أغلب من الحقّ لم يحلّ لأحد أن يظنّ بأحدٍ خيرًا حتّى يُعرف ذلك منه"17.
4- إنّ حسن الظنّ بالناس لا يشمل أعداء الله تعالى، وهذا ما أشار إليه الإمام عليّ عليه السلام في عهده لمالك الأشتر لمّا ولاّه مصر: "الحذر، كلّ الحذر من عدوّك بعد صلحه, فإنّ العدوّ ربّما قارب ليتغفَّل، فخذ بالحزم، واتَّهم في ذلك حسن الظنّ"18. * كتاب كيف نتواصل مع الناس؟، سماحة الشيخ أكرم بركات. |