قال تعالى: ﴿قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لأَوَّلِنا وآخِرِنا وآيَةً مِنْكَ وارْزُقْنا وأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قالَ اللَّه إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُه عَذاباً لا أُعَذِّبُه أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ﴾ سورة المائدة: 114 - 115
اختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا؟ قال الحسن ومجاهد: إنّها لم تنزل وأنّ القوم لمّا سمعوا الشرط استعفوا عن نزولها وقالوا: لا نريدها فلم تنزل، قال المحقّقون من العلماء: إنّها نزلت لقوله: «إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ» ولا يجوز أن يقع في خبره الخلف ولأنّ الأخبار قد استفاضت عن النبيّ صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم والصحابة والتابعين أنّها نزلت([1]). روي أنّ عيسى اغتسل ولبس جبّته وهي من صوف وصلَّى ركعتين فطأطأ رأسه وغضّ بصره ثمّ دعا واختلف في كيفيّتها فروي عن عمّار بن ياسر عن النبيّ صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم قال: نزلت المائدة خبزا ولحما وذلك لأنّهم سألوا عيسى طعاما لا ينفد يأكلون منها فقيل لهم: فإنّها مقيمة معكم ما لم تخونوا وتخبؤوا فإن فعلتم ذلك عذّبتم، قال: فما مضى يومهم حتّى خبؤوا ورفعوا وخانوا. قال ابن عبّاس: إنّ عيسى بن مريم قال لبني إسرائيل: صوموا ثلاثين يوما ثم اسألوا اللَّه ما شئتم يعطكموه فصاموا ثلاثين يوما فلمّا فرغوا قالوا: يا عيسى إنّا لو عملنا لأحد من الناس فقضينا عمله لأطعمنا طعاما وإنّا صمنا وجعنا فادع اللَّه أن ينزّل علينا مائدة من السماء فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتّى وضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم وهو المرويّ عن الصادق.
وروي أنّها نزلت سفرة حمراء بين غمامتين وهم ينظرون حتّى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى وقال: اللهم اجعلنا من الشاكرين ولا تجعلها مثلة وعقوبة، ثمّ قام وتوضّأ وصلَّى وبكى ثمّ كشف المنديل الَّذي عليها وقال: بسم اللَّه خير الرازقين فإذا سمكة مشويّة بلا فلوس ولا شوكة يسيل دسمها وعند رأسها ملح وعند ذنبها خلّ وحولها من أنواع البقول ما خلا الكراث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبنّ وعلى الخامس قديد فقال شمعون رأس الحواريّين: يا روح اللَّه أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ فقال: ليس منهما ولكنّه اخترعه اللَّه بقدرته، كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم اللَّه ويزدكم من فضله. فقالوا: يا روح اللَّه لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال عيسى: يا سمكة احي بإذن اللَّه فاضطربت ثمّ قال لها: عودي كما كنت فعادت مشويّة فلبثت المائدة يوما واحدا فأكل من أكل منها ثمّ طارت ولم تنزل بعد ذلك اليوم وقيل: كانت تأتيهم أربعين يوما غبّا([2]) يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار يأكلون حتّى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون، ولم يأكل منها فقير إلَّا غنى مدّة عمره ولا مريض إلَّا برئ ولم يمرض أبدا فأوحى اللَّه إلى عيسى: اجعل مائدتي للفقراء دون الأغنياء، فعظم ذلك على الأغنياء حتّى شكّوا وشكّكوا الناس فيها فأوحى اللَّه إلى عيسى: إنّي شرطت على المكذّبين أنّ من كفر بعد نزولها اعذّبه فقال عيسى عليه السلام: «إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم» فمسخ منهم ثلاث مائة وثلاثة وثلاثون رجلا باتوا من ليلهم على فراشهم مع نسائهم في بيوتهم فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكناسات ويأكلون العذرة في الجشوش فلمّا رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى وبكوا وبكى على المسوخين أهلوهم فعاشوا ثلاثة أيّام ثمّ هلكوا. وفي تفسير أهل البيت: كانت المائدة تنزل عليهم يجتمعون عليها ويأكلون منها ثمّ ترفع فقال كبراؤهم ومترفوهم: لا ندع سفلتنا يأكلون منها معنا فرفع اللَّه المائدة ببغيهم وكبرهم ومسخوا قردة وخنازير. وصار يوم نزل المائدة عيدا لامّة عيسى كما أنّ السبت عيدا لامّة موسى وكان لقوم إبراهيم عيد وكانوا قد خرجوا لعيدهم([3]) ودخل إبراهيم معبدهم وكسر أصنامهم ولامّة محمّد صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم أعياد، فالعيد المكرّر في الأسبوع: الجمعة وهو عيد الأسبوع مرتّب على إكمال الصلوات المكتوبات باجتماع الناس فيه مع النبيّ صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم بأداء صلاة الجمعة وإدراك مثوباتها فإن اللَّه تعالى فرض على المؤمنين في اليوم والليلة خمس صلاة وإنّ الدنيا تدور على سبعة أيّام فكلَّما كمل دور أسبوع من أيّام الدنيا واستكمل المسلمون صلاتهم شرع لهم في يوم استكمالهم عيد يوم الجمعة وهو اليوم الَّذي كمل فيه الخلق([4]) وفيه خلق آدم وادخل الجنّة واخرج منها، وفيه منتهى أمر الدنيا فتنزل وتقوم الساعة فيه فجعل فيه الاجتماع على سماع الذكر والموعظة وصلاة الجمعة عيدا لهم. وفي اجتماع يوم الجمعة شبه من الحجّ حتّى قيل: إنّها حجّ المساكين قال سعيد بن المسيّب: شهود الجمعة أحبّ إليّ من حجّة النافلة والتكبير فيه يقوم مقام الهدي وشهود الجمعة يوجب تكفير الذنوب إلى الجمعة الأخرى إذا سلم ما بين الجمعتين من الكبائر كما أنّ الحجّ المبرور يكفر ذنوب تلك السنة إلى الحجّة الأخرى. وقد روي إذا سلمت الجمعة سلمت الأيّام. وامّا الأعياد الَّتي تكرّر في السنة فعيد الفطر من صوم رمضان وهو مرتّب على إكمال الصيام ويزيد ثوابه بأداء صلاته وآدابه والصوم الركن الثالث من أركان الإسلام ومبانيه. والعيد الثالث في الإسلام باعتبار والثاني باعتبار عيد النحر وهو أكبرهما وأفضلهما وهو مترتّب على إكمال الحجّ وهو الركن الرابع من أركان الإسلام ومبانيه فإذا أكمل المسلمون حجّتهم غفر لهم ومن أعياد المسلمين النيروز وكان عيدا للعجم وقد أمضته الشريعة وسنّه النبيّ صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم([5]) ومن الأعياد الغدير بل من أعظمها وأتّمها وأكملها كيف لا وفيه تمّت نقائص الإسلام وقد وقع القوس بيد باريها وجرت أنهار الهداية على مجاريها. تفسير مقتنيات الدرر ، مير سيد علي الحائري الطهراني
|