السبت 4/5/2024  
 الاغترار بالعبادة الشكلية

الاغترار بالعبادة الشكلية
أضف تقييـم
التأمل في قضية الخوارج[1] الذين كانوا من المتعبدين المتنسّكين، بل يمضون الليل في العبادة، عندما أرسل الإمام عليّ عليه السلام ابن عباس[2] يوم النهروان ليبذل لهم النصح، عاد ابن عباس ووصفهم بقوله: "وَأَتَيْتُ قَوْمًا لَمْ أَرَ قَوْمًا قَطُّ أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ، مُسَهَّمَةٌ[3] وُجُوهُهُمْ مِنَ السَّهَرِ، كَأَنَّ أَيْدِيَهُمْ وَرُكَبَهُمْ ثَفِنٌ[4]، عَلَيْهِمْ قُمُصٌ مُرَحَّضَةٌ[5]"[6].
 
كان الخوارج متمسكين بأحكام الإسلام وظواهره أشدّ التمسك، يبتعدون عن كلّ ما كانوا يرونه إثمًا، كانت لهم معاييرهم الخاصة التي كانت تمنعهم من اقتراف أي مخالفة، وكانوا ينفرون ممّن يرتكب خطيئة. قتل زياد ابن أبيه أحد الخوارج، ثمّ استجوب خادمه عنه، فقال: "ما قدمت له طعامًا في النهار، ولا فرشت له فراشًا في الليل، فقد كان صائمًا نهاره وقائمًا بالعبادة ليله[7]".

  فلا جباههم المتقرحة من أثر السجود، ولا ملابسهم الرثّة وزهدُهم، ولا ألسنتهم الدائمة الذكر لله، فوقفوا في وجه إمام زمانهم، وأيضًا لم تستطع أن تغيّم على بصيرة أمير المؤمنين عليه السلام في قتالهم كلُّ ظواهرهم، وهو يدرك كلّ الإدراك أهمية عمله ذاك وعظمتَه. وفي ذلك يقول: "فَأَنا فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي، بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا[8] وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا[9]"[10].
 
لأنهم لو تركوا ووطدوا أقدامهم، فإنّهم سيصيبون الآخرين بدائهم، ويجرون عالم الإسلام إلى التمسك بالظواهر والقشور وبالجمود الفكري والتحجر العقلي، حتّى يقصموا ظهر الإسلام، وهم من مصاديق قول أمير المؤمنين عليه السلام: "قَصَمَ ظَهري عالِمٌ مُتَهَتِّكٌ، وجاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ، فالجاهِلُ يَغُشُّ النّاسَ بِتَنَسُّكِهِ، والعالِمُ يُنَفِّرُهُم بِتَهَتُّكِهِ[11]"[12]. وما أدقّ الوصف الّذي وصفهم به الإمام عليّ عليه السلام إذ يقول: "ثُمَّ أَنْتُمْ شِرَارُ النَّاسِ، وَمَنْ رَمَى بِهِ الشَّيْطَانُ مَرَامِيَهُ، وَضَرَبَ بِهِ تِيهَه"[13].
 
كيف أنظر إلى عبادتي؟
بأن يكون مفهوم العبادة شاملًا ومعناها واسعًا، ولا يقتصر على بعض الطاعات والأفعال والفرائض، فكلّ ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة إذا صحّت النية وأحبها الله وارتضاها فهي عبادة. فحركاتك وسكناتك وتعاملاتك إذا أحسنت النية فيها فهي عبادة، وكذلك أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، بل تبسّمك في وجه أخيك، وإماطة الأذى عن الطريق، والحياء، وصلة الأرحام وبر الوالدين، وحسن العشرة والأخوّة في الله، والصدق في الحديث، والتسامح مع الآخرين والصفح عنهم، وحسن الخلق، وتجنب مواطن الشبهة والريبة، إلى غير ذلك من التعاملات والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية.
 
وما أعظم الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ[14] صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنْ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ"[15]. وفي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "تبسُّمُ الرجل في وجه أخيه حسنة، وصرف القذى عنه حسنة، وما عُبد الله بشيء أحبّ إلى الله من إدخال السرور على المؤمن"[16].
  
تذكرة لمن يخشى...، دار المعارف الإسلامية الثقافية
عدد المشـاهدات 709   تاريخ الإضافـة 12/05/2022 - 13:09   آخـر تحديـث 29/04/2024 - 00:09   رقم المحتـوى 20606
 إقرأ أيضاً